للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أم الخبائث؛ لأنها بعد تناولها تسهل كل خبيثة كانت مستعصية لَا تقبلها النفس ويعافها الشارب.

ثاني الأمرين اللذين يترتبان على الشرب بلا مراء: ذهاب الرشد، أو إضعاف الإدراك ووزن الأمور وزنا صحيا، وإنا والله لنعجب لأولئك الذين يرضون الضلال بدل الرشد، والغفلة بدل الصحو، وقد كان في الجاهلية رجال عافوا ذلك، ولم يرتضوه لأنفسهم، وقد قيل للعباس بن مرداس، وكان لَا يشرب: (ألا تشرب الخمر، فإنها تزيد في حرارتك؟) فقال: (ما أنا آخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى بأن أصبح سيد القوم وأمسي سفيههم).

ولكن الفوضى الخلقية التي صار عليها الناس اليوم جعلتهم يغفلون عن هذه الحقائق المقررة الظاهرة، ولا يلتفتون إليها، بل لقد ذهب بعضهم إلى المغالاة فزعم أنها ضرورية للمدنية اليوم، فإن الآلام النفسية قد اشتدت، والمحن قد كثرت، ولا دواء لهذا الداء إلا الخمر، فهي اليوم دواء لَا داء، وإنها علاج المجتمع! ذلك قولهم بأفواههم، وذلك تفكيرهم في أهوائهم.

ونحن نقول: إنها تناسب مدنيتهم، وهي خاصة من خواصها، لأنها مدنية اتسمت بالرذيلة، وصارت شعارها، فكان من المناسب أن تكون الخمر دواءها؛ لأن الدواء يكون من جنس الداء، وأم الخبائث هي التي ترأم الخبائث، وتكنفها وتحوطها وترعاها، فلا عجب إذا رأينا التفكير المعكوس هو الذي يدافع عن الخمر، ولابد أن قائله قاله ورائحتها تنبعث من فيه!.

من ذا الذي يقول إن تفاقم الرذائل داع للانغمار فيها؛ إنه كلما تفاقم الشر وجب جمع العزائم لمحاربته، وإن المحن النفسية إذا اشتدت وجب تقوية الوجدان الخلقي، والضمير الخلقي، وتربية الناس على ضبط النفس والصبر الجميل، وإيقاظ النزوع الديني، والعزاء الروحي، أما إذا تألمت النفس وقوي الضمير، واشتد اللوم النفسي فأخذ المتألم الكاس ليخفي الألم وليضعف صوت الضمير، فإنه كالجندي يفر من مواطن الجهاد، وميدان العمل إلى أن يكون في موضع الهمل، فهل يرضى كريم

<<  <  ج: ص:  >  >>