للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ الْغَاصِبَ نَفْسَهُ، لَوْ اغْتَلَّ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ أَخَذَ كِرَاءَ الدَّارِ، كَانَ لَازِمًا لَهُ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ الْغَلَّةِ وَالْكِرَاءِ إلَى مُسْتَحِقِّ الدَّارِ. فَلَمَّا وَهَبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَأَخَذَهَا هَذَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، فَكَأَنَّهُ هُوَ الْغَاصِبُ نَفْسُهُ فِي غَلَّتِهَا وَكِرَائِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ مَالٌ.

أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ مَاتَ فَتَرَكَهَا مِيرَاثًا، فَاسْتَغَلَّهَا وَلَدُهُ، كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَغَلَّتُهَا لِلْمُسْتَحِقِّ؟ فَكَذَلِكَ الْمَوْهُوبَةُ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، لَا يَكُونُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْوَارِثِ فِيهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ الْوَاهِبِ مَالٌ. أَوَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ قَمْحًا أَوْ ثِيَابًا أَوْ مَاشِيَةً، فَأَكَلَ الْقَمْحَ وَلَبِسَ الثِّيَابَ فَأَبْلَاهَا وَذَبَحَ الْمَاشِيَةَ فَأَكَلَهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ أَنْ يَغْرَمَ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَا يُوضَعُ عَنْهُ لِاشْتِرَائِهِ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يُوضَعُ عَنْهُ مَا كَانَ مِنْ الْحَيَوَانِ مِمَّا هَلَكَ فِي يَدَيْهِ أَوْ دَارًا احْتَرَقَتْ أَوْ انْهَدَمَتْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لِثَمَنِهَا وَمُصِيبَتِهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحِنْطَةُ وَالثِّيَابُ لَمْ يَأْكُلْهَا وَلَمْ يُبْلِهَا حَتَّى أَتَتْ عَلَيْهَا جَائِحَةٌ مِنْ السَّمَاءِ فَذَهَبَتْ بِهَا، وَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَكَمَا كَانَ مَنْ اشْتَرَى فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا أَوْ مَاشِيَةً فَأَكَلَهَا أَوْ لَبِسَهَا لَمْ يَضَعْ الشِّرَاءُ عَنْهُ الضَّمَانَ، فَكَذَلِكَ الْمَوْهُوبُ لَهُ حِينَ وُهِبَ لَهُ مَا لَيْسَ هُوَ لِمَنْ وَهَبَهُ لَهُ، إنَّمَا اغْتَصَبَهُ وَاسْتَغَلَّهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَمَانٌ لِثَمَنٍ أَخْرَجَهُ فِيهِ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا اسْتَغَلَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ الْوَاهِبِ مَالٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ، أَنَّ الْغَلَّةَ لِلَّذِي اسْتَحَقَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، إنْ كَانَ وَهَبَهَا هَذَا الْغَاصِبُ.

وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا نَزَلَ بَلَدًا مَنْ الْبُلْدَانِ، فَادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ، فَاسْتَعَانَهُ رَجُلٌ فَبَنَى لَهُ دَارًا أَوْ بَيْتًا، أَوْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ فَأَتَى سَيِّدُهُ فَاسْتَحَقَّهُ، أَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَةَ عَمَلِ غُلَامِهِ فِي تِلْكَ الدَّارِ وَالْبَيْتِ إذَا كَانَ الشَّيْءُ لَهُ بَالٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا بَالَ لَهُ، مِثْلُ سَقْيِ الدَّابَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَيَأْخُذُ جَمِيعَ مَالِهِ الَّذِي وُهِبَ لَهُ، إنْ كَانَ أَكَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ بَاعَهُ فَأَخَذَ ثَمَنَهُ فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَلِفَتْ مِنْ يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ.

قُلْتُ: وَلِمَ لَا يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إذَا تَلِفَتْ عِنْدَهُ، وَقَدْ جَعَلْتَ أَنْتَ الْغَلَّةَ لِلْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّكَ قُلْتَ: الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْغَلَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ مَالٌ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ اغْتَلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَخَذَ الْغَلَّةَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَجَعَلْتَ الْمَوْهُوبَةَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فِي الْغَلَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ مَالٌ، فَلِمَ لَا يَكُونُ الْمَوْهُوبَةُ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ مَالٌ فِي التَّلَفِ؛ لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي الْغَاصِبِ لَوْ تَلِفَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِنْدَهُ بِمَوْتٍ أَوْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ كَانَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؟ فَلِمَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ مَالٌ؟

قَالَ: لِأَنَّ الْمَوْهُوبَةَ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمْ يَتَعَدَّ وَالْغَاصِبُ قَدْ تَعَدَّى حِينَ غَصَبَهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبَةُ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَدْ عَلِمَ بِالْغَصْبِ، فَقَبِلَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْغَصْبِ فَتَلِفَتْ عِنْدَهُ، أَنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْغَاصِبِ أَيْضًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>