للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم زيارة النساء للقبور]

السؤال

ما حكم زيارة القبور للنساء إذا علمت أنها تزور والديها وتسافر من مكان بعيد؟

الجواب

زيارة القبور نهى عنها الرسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام حين تكاثر الناس بموتاهم وكانوا يعدونهم فيفخرون بهم، ثم بعد ذلك بعد أن أنزلت سورة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:١ - ٢]، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)، وفي رواية: (فزوروها ولا تقولوا هجراً)، والهجر الكلام القبيح، وهذا الحديث عام في الرجال والنساء، والدليل على ذلك ما ثبت من حديث عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تقول إذا زارت الأموات؟ فعلمها أن تقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، آمن الله روعتكم، وآنس وحشتكم، وجعل الجنة موعداً بيننا وبينكم، يرحم الله المتقدمين منا والمستأخرين).

وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندها، فخرجت تبحث عنه فوجدته واقفاً تلقاء رءوس المقبرة وهو يدعو لهم، فوقفت خلفه ودعت بما دعا به، ثم رجعت فسبقته، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها خرجت تبحث عنه، فسألها فقصت عليه الخبر.

وعلى هذا فإن المرأة إذا كان بقربها أموات فإنه لا حرج في زيارتها لهم لكن لا تقف على كل قبر، بل تقف أمام المقبرة وتتذكر الآخرة وتدعو لهم بما علم الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة أن تدعو به، وحينئذ تستفيد المرأة من ثلاثة أوجه ينبغي ترتيبها: الوجه الأول: أن تتذكر أن القبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وأن صاحبه قد انقطع خبره عن أهل الدنيا، وأن أهل القبور مسجونون في قبورهم، فهم أسارى ذنوب لا ينفكون، وأهل قرب لا يتزاورون، وأنهم هنا في هذا الحال إما أن يكونوا في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، والقبر أول منازل الآخرة وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، هذه الموعظة الأولى.

الموعظة الثانية: أن تتذكر حال هؤلاء الذين دفنوا في هذه القبور فانقطعت أخبارهم عن الناس، وقد كانوا يظن أنهم من المؤثرين، ومن الذين يوثق بهم وتوكل إليهم الأعمال والأمور، ومع ذلك أصبح أهلوهم يتصرفون في أمتعتهم من بعدهم، فالشخص الذي كان شحيحاً بخيلاً أصبح ماله يتقاسمه الناس، والشخص الذي كان يحرص على أسراره وأموره المختصة به أصبحت صناديقه مقسمة بين الناس ومفاتيحه في أيديهم، وهكذا فملابسه الخاصة يلبسها من سواه، قد انتقل عن هذه الدنيا فأصبح بعد أن كان يخاف من كل شيء في أوحش المنازل وأشدها خوفاً، كما قال الشاعر يرثي زوجته: أنى حللت وكنت جد فروقة بلداً يمر به الشجاع فيفزع ولقد تركت صغيرة مرحومة لم تدر ما جزع عليك فتجزع فإذا سمعت أنينها في ليلها طفقت عليك شئون عيني تدمع فهنا يقول: (أنى حللت وكنت جد فروقة بلداً يمر به الشجاع فيفزع) (كانت جد فروقة) أي: تحذر أن تبقى وحدها في الغرفة، تحذر من الظلام، تحذر من كل الأمور، ومع ذلك أصبحت تعيش في هذه الحفرة الموحشة.

فهذا هو القسم الثاني من الموعظة التي تحصل لزائر القبور، وهذا القسم هو الذي حصل في أيام معاوية رضي الله عنه؛ فإن رجلاً جاء إلى الشام فرأى جنازة تحمل، فخرج مع أهلها، فلما دفنوها وقف يبكي، وأنشد قول الشاعر: يا قلب إنك في أسماء مغرور فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور فقال له رجل ممن كان يحمل الجنازة: أتعرف قائل هذه الأبيات؟ فقال: لا والله.

فقال: قائلها صاحب هذا القبر وأنت الغريب الذي يبكي عليه، وهو الذي كان مغبوطاً في الأحياء، فإذا هو في الرمس تعفوه الأعاصير، فكان هذا من المواعظ العجيبة.

الموعظة الثالثة: أن يتذكر الشخص حال هذا الميت بعد انتقاله من السرور والحبور إلى القبور، يتذكر حال أهل هذا الميت بعد انتقاله عنهم، فإنه كان ينظر إليهم على أنهم يعيشون في كنفه، وأنه هو الذي يتولى أمورهم ويقوم بمصالحهم، وقد انتقل عنهم فلم يتغير شيء في حياتهم، وكانوا يظنون أنه المدبر والمنفق عليهم، وأنه لا يأتيهم رزق إلا من قبله، فانتقل فلم يتغير شيء من أمورهم البتة، كما قال الشاعر: تقلبت الدنيا كأن ليس حادث وما اختل من صرف الزمان نظام أي: لم يختل أي شيء مما كان، وهذا يدل على أن الله وحده هو المدبر الحي القيوم الخالق الرازق.

بعد هذا تأتي موعظة الختام وهي: أن يتذكر الزائر للقبور أن أحسن أحواله أن يدفن كما دفنوا، وأن يموت بين المسلمين فيصلى عليه وينقطع خبره، فلا يصل منه اتصال هاتفي ولا رسالة ولا أي خبر إلى أهل الدنيا، فهذه الموعظة الأخيرة، وهذا لا يقتضي التجول بين الأجداث والمرور عليها والوقوف عليها والجلوس عليها، فهذه أمور محظورة شرعاً.

وإنما تكون زيارة القبور الشرعية بأن يقف الشخص أمام القبور حتى يراها ويتعظ بحال أهلها ولا ينبغي أن يتدخل بينهم، وأن يمر على القبور ويجلس على بعضها، فقد جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يجلس أحدكم على جمر فيحرق ثوبه فيصل إلى جسده، خير له من أن يجلس على قبر).

وكذلك المرور على القبور والخروج من فوقها كل هذا مما لا ينبغي، فعلى الشخص أن يقف لقصد الموعظة وقصد الدعاء، فأصحاب القبور إذا كانوا مؤمنين ينتفعون بدعاء من دعا لهم، والزائر هو المنتفع بهذه المواعظ التي ذكرناها، وليس بينه وبين الأموات أية صلة غير هذا، ولا يمكن أن يستفيد منهم أي منفعة ولا أن يوصل إليهم أي خبر، ولا أن يعرف من أمورهم أي شيء، إنما يستفيد فقط من هذه المواعظ.