للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبد الله بن ياسين وما قام به من تربية وجهاد عظيمين]

هذا الرجل رأى أن الدعوة الفردية والاتصال بالأشخاص مباشرة ليس ذا أثر بالغ يمكن أن يقيم دولة في هذه الأرض، فأراد عبد الله بن ياسين أن يخرج نخبة من هذا المجتمع يربيها تربية خاصة حتى تستطيع تحمل هذه الرسالة، وحتى تستطيع تحمل أعبائها، فانفرد بهم في جزيرة (تيدرا) -وهي القريبة من نواكشوط- ثلاث سنين يربيهم، حتى وصلت أعدادهم إلى ثلاثة آلاف، وكان يأخذهم بالشدة والقسوة، وكان من سياسته أنه يضرب من تخلف عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تخلف عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تخلف عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تخلف عن الصلاة الرباعية كلها جلده أربعين سوطاً، حتى إنه كان يجلد أمراء القبائل ورؤساءها إذا تخلفوا عن بعض الصلاة أو قصروا في بعض العبادات، وهكذا أخذهم بالشدة والقسوة حتى أخرج منهم جيلاً صالحاً لتحمل هذه المسئولية وللتضحية في سبيل الله.

فلما بلغوا ثلاثة آلاف مجند، من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، وتربوا تربية صالحة، والتزموا بهذا الدين ظاهراً وباطناً، وخضعت رقابهم له، وجعلوه فوق أهوائهم وفوق انتماءاتهم، وجعلوا هذا الدين هو مصيرهم، وهو الذي يرتبط به مستقبلهم، وربطوا به آمالهم وآلامهم؛ علم أنهم أهل لأن ينصرهم الله، فالنصر جائزة الله، ولا يمكن أن تعطى إلا لمن يستحقها؛ لذلك لم يغتر ابن ياسين بكثرة الأتباع والأشياع، ولم ينظر إليهم في بادئ الرأي وبادئ الأمر على أنهم رجال أقوياء وأهل حرب وقوة، وإنما نظر إلى أن القلوب هي محط التكليف، فبدأ أولاً بتربية النفوس وتكوينها، حتى إذا علم أنهم قد استووا إلى هذا المستوى خرج بهم على المجتمع، فلما رآهم الناس أيقنوا فيهم هدي الأنبياء وسلوكهم.

فهؤلاء قد تربوا على منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا من ورثة الأنبياء حقاً؛ لذلك استجاب لهم الناس، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ورضوا بما رضي به المرابطون، وأقاموا الأربطة في كل مكان، وسعوا لأجل إعزاز هذا الدين ونشره ونصره، فبعثوا القوافل، وجيشوا الجيوش، وأرسلوا السرايا والبعوث، فنشروا هذا الدين حتى دخل أهل كل هذه البلاد في الدين، وحتى فهموه واستجابوا لدعوته وقاموا بواجبه، حينئذ رأى عبد الله بن ياسين أن المراحل التي يمكن أن تمر بها هذه الدعوة خمس مراحل في البداية: المرحلة الأولى: هي تكوين جماعة مقتنعة بهذا المنهج الصحيح، ملتزمة به، تجعله أمامها، وتسعى من أجل الجهاد بالأنفس والأموال والألسنة دونه، وهذه المرحلة الأولى تحققت في جزيرة (تيدرا).

المرحلة الثانية: تكوين دولة تستطيع حماية البيضة، ورفع لواء الإسلام عالياً مدوياً مرفرفاً فوق بلاد الله تعالى، فأقام الدولة، وبايع أميراً، ولم يشأ أن ينصب نفسه خليفة؛ ليتغلب على حظوظ النفس، ولأجل ألا يكون هو صاحب كل المسئوليات، فتقاسم المسئوليات هدف رائع من الأهداف التي دعا إليها الإسلام.

المرحلة الثالثة: هي إقامة الحجة على الناس بإبلاغ دين الله إليهم، وهذه المرحلة هي التي سعى إليها الأمير بعد أن نصبه عبد الله بن ياسين.

المرحلة الرابعة: هي بث الأمن، وإقامة هياكل اجتماعية تكفل للناس استمرار دعوتهم وحياتهم، وتكفل لهم وسائل عيشهم باستمرار، وهذا ما سعى له ابن ياسين، وهو من حظ الدنيا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧].

المرحلة الخامسة: هي أستاذية العالم، أن يبث نفوذه فيما حوله من الأرض حتى يجعلها كلها خاضعة لدين الله، إما أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتلتزم بدين الله، أو أن تمد الرقاب خاضعة وتمد الأيدي منبسطة بالجزية، وهذا ما فعله أهل تلك البلاد فخضعوا لهذه الدولة.

بايع عبد الله بن ياسين يحيى بن عمر اللمتوني فقام بالأمر خير قيام، ولكنه كان شجاعاً أكثر من اللازم، فكان إذا التقى الصفان في الجهاد في سبيل الله كان أمام الجيش، فلذلك كان عبد الله بن ياسين يعاقبه إذا رجع من غزوة، فيجلده خمسين سوطاً؛ لأنه تقدم عن صفه، والله تعالى {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:٤]، فكان الأمير إذا رجع منتصراً يخاف من سطوة القائد الأعلى عبد الله بن ياسين إذا خالف النظام وتقدم على الصف.

ثم لما نشر عبد الله جيوشه وسراياه، وفتح كثيراً من البلاد، كان من سياسته أنه ينصب في كل بلد يفتحه قائداً عسكرياً وقائداً دينياً يربي الناس، وقد أخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل قائداً دينياً وأبا موسى الأشعري قائداً عسكرياً، وجعل كل واحد منهما أميراً فقال: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه، فأخذ عبد الله بن ياسين من هذا الحديث الصحيح الذي في الصحيحين وغيرهما أن المسئولية أعظم من أن يتولاها واحد، فكان يرتب لكل قوم قائداً عسكرياً، وقائداً دينياً يربيهم على نفس المنهج.