والإنسان محتاج إلى أن يتذكر ساعة الانتقال وهو محمول على الرقاب إلى الدار الآخرة، وإذا تذكر ذلك فإن هذا مدعاة لأن يستغل هذه الفرصة قبل أن يحمل على الرقاب، يستغلها فيما ينجيه ويقربه، وهو يتذكر أحوال أولئك الذين ساروا وانقطعوا عن هذه الدنيا وانتقلوا وتركوا ما خولهم الله وراء ظهورهم ولم يصحبوا منه شيئاً، كما قال تعالى:{وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}[الأنعام:٩٤].
يتذكر حال أولئك وهو يعلم حرص كثير منهم، وأنهم اليوم في قبورهم يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا لحظة واحدة ليحسنوا العمل ويبدلوا ما كانوا يعملونه من شر ويغيروه ويتوبوا إلى الله، فيحسنوا فيما بقي من هذه الدنيا.
ولهذا فإن كثيراً من الصالحين كان يتصور نفسه محمولاً على الرقاب إلى الدار الآخرة، فيبادر غاية المبادرة لاستغلال بقية العمر، وبعضهم كان يحفر قبراً أمامه حتى يراه، ويستحضر أن هذا القبر هو الذي سيدفن فيه، فيبادر لاستغلال الفرصة قبل أن يدفن في هذا القبر، وكذلك بعضهم كان يستحضر قصص السالفين الذين أدرك موتهم، فالإنسان يشهد كثيراً من الناس قد حسنت خواتمهم، وانتقلوا من هذه الدنيا انتقالاً مشرفاً، ويشهد آخرين -نسأل الله السلامة والعافية- قد أخذوا في حال الغفلة، قد جاءهم الموت في الوقت الذي لا يرتضون مجيئه فيه، فانتقلوا وهم منغمسون في أوساخ الدنيا ووحلها وما فيها، وهم في غفلة كاملة عما أمامهم، فإذا جاء الموت ارتفع عنهم هذا، وصاروا كأنما كانوا في غفلة شديدة، فأزيل الغشاء عن أبصارهم، كما قال تعالى:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:١٩ - ٢٢].
ولقد صح أن كثيراً منهم كانوا إذا ذكروا ذلك الحال وتذكروا خواتم الناس وانتقالهم يشعرون بزاد يتزودون به، ويشعرون بقوة خارقة فيما يتعلق بعبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، فيجدون وقوداً ينطلقون به في طريقهم.
حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه حجته الأخيرة في حياته، فلما خرج من مكة وقف على جبل اسمه (ضجنان)، فقال: (لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت.
وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش.
ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه.
ثم أنشأ يقول: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا وكذلك فإن كثيراً منهم كان إذا أحس بالغفلة انتسب، أي: ذكر من مضوا من أسلافه، فوجد أن كل من سبقه من أفراد أسرته ومن عمود نسبه قد انتقلوا إلى الدار الآخرة، وأنه هو قد بقي على الأثر، فإما أن ينتقل في الصباح أو في المساء وهو سائر على طريقهم، فيعينه هذا على استغلال الفرصة قبل فوات الأوان، ولقد صدق القائل: هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب وقال آخر: ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا يا من لشيخ قد تطاول عهده وأفنى ثلاث عمائم ألوانا سوداء حالكة وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا