للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اجتماع الناس للحساب]

وكذلك بعد هذا اجتماع الناس في الساهرة، فيجتمع فيها أولهم وآخرهم، يرى الشخص أطرافهم، فالشخص الواحد القائم يرى أطراف الخلائق من لدن آدم إلى قيام الساعة ببصره العادي، يجتمع الخلائق كلهم حفاة عراة غرلا، حفاة لا ينتعل أحد منهم، وعراة لا يلبس أحد منهم، وغرلاً لم يختتن أحد منهم، على هيئتهم الأصلية الرجال والنساء، ثم يطول بهم الموقف ويحبسون ذلك الحبس الطويل الذي تدنو فيه الشمس حتى تكون كالميل فوق رؤوسهم، ويشتد العرق حتى يلجم كثيراً منهم، ويصل ببعضهم إلى الثديين، وبعضهم إلى الترقوتين، وبعضهم دون ذلك، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالناس من كل جانب، ويؤتى بالملائكة صفاً صفاً، ويتجلى الباري سبحانه وتعالى فوق عرشه، قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:١٧]، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:٢٢ - ٢٤].

ثم إذا طال هذا الموقف بالناس فمن مشاهد القيامة أنهم يدوكون فيما بينهم ويسألون عن الرأي، فيقولون: قد طال بنا موقفنا، وإن ربنا قد غضب علينا، وإنه لم يكن ملجؤنا في الدنيا إلا العلماء فلنذهب إليهم.

فيذهبون إلى العلماء فيقولون: ليس اليوم لنا، وإنما هو للأنبياء: (فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيقولون: أنت أبونا، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي.

إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله في أكل الشجرة، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم.

فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الله، اصطفاك لخلته واختارك من بين خلقه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار.

فيقول إبراهيم: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي.

إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى.

فيأتونه فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله اصطفاك برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار.

فيقول موسى: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي.

إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم يؤذن لي بقتلها، ولكن اذهبوا إلى عيسى.

فيأتونه فيقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار.

فيقول: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي.

إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله، ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

فيأتونه فيقول: أنا لها.

فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله تعالى ثناءً لم يثن به أحد على الله، فيقال له: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه) فيرفع رأسه ويشفع للناس.

فحينئذ يؤذن لهم في الانصراف، فينصب الصراط على متن جهنم، ويتجلى الباري لفصل الخصام بينهم، حتى يقتاد للشاة الجماء من الشاة القرناء.

وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، يكسوه الله تعالى من الديباج الأبيض من الجنة، ثم يكون الأنبياء على منابر من نور، وتقام المنابر للمقسطين -وهم العادلون من المؤمنين- فيكونون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، يشهدون على الناس، ويستشهد الشهداء، في ذلك الوقت كل إنسان يأتي معه سائق وشهيد، فالسائق: الملك الذي كان يكتب أعماله، والشهيد: الرسول الذي أرسل إليه وقامت عليه الحجة به، وكل أمة يرفع لها لواء باسم زعيمها وقائدها: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء:٧١].

فيعطى الناس كتبهم، فمنهم من يعطى كتابه بيمينه تلقاء وجهه، وهؤلاء هم الذين يقولون حين يدخل عليهم السرور: {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:١٩] , ومنهم من يعطى كتابه بشماله وراء ظهره بإهانة وإيذاء، فهؤلاء -نعوذ بالله تعالى- يشكون من حالهم ويدعون بالويل والثبور.

ثم بعد ذلك يبيض الله وجوه الذين يصطفيهم للجنة ويسود وجوه الكاذبين عليه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:٦٠].

ثم بعد هذا ينادي الله تعالى آدم بصوته فيقول: (أخرج بعث النار.

فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢]).

وحينئذ يؤتى بالنار، وتزلف الجنة لأهلها، وينصب الصراط على النار، وهو جسر منصوب على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يمر الناس عليه فيتفاوتون بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.

ثم إذا مروا دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة، ويضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويستفتح أهل الجنة الجنة، وأول من يستفتح محمد صلى الله عليه وسلم، فيحرك حلقة الباب فتفتح أبواب الجنة كلها، ويؤذن للناس بدخولها بحسب أعمالهم، ففيها باب الصلاة، وباب البر، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يلج منه أحد، ويدخل أهل النار النار، وأدناهم منزلة فيها المنافقون الذين هم أخفضهم في قعر جهنم، نعوذ بالله، وقعرها يهوي فيه الحجر الصلب الثقيل سبعين خريفاً لا يصل إلى قعرها، يرمى به من أعلاها فيمكث سبعين سنة يهوي حتى يصل إلى قعرها.