[مواجهة عائشة لحادثة الإفك]
وكذلك فإن أعظم مشكلة في حياتها هي مشكلة الإفك التي حصلت في العام السادس من الهجرة، عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً إلى بني المصطلق، فأقرع بين نسائه، فخرجت القرعة لـ عائشة، وكان ذلك العام عام قحط.
وكانت عائشة قد استعارت من أختها أسماء عقداً من جزع أظفار فكان في عنقها، فبينما هي خارجة لبعض حاجتها ذكرت العقد فلم تجده، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فمكثوا كذلك حتى نفذ ماؤهم، فجاء الناس إلى أبي بكر فقالوا: أما ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماء.
فأتاها فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً قد اضطجع وأسند كتفيه إلى بطنها، فجعل أبو بكر يضربها بخاصرتها، ويقول: أقمت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماء؟ تقول: فأتألم ما يمنعني من الحركة إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه جبريل بآية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركاتكم علينا يا آل أبي بكر، فبعثوا البعير الذي كانت عليه فوجدوا العقد تحته، ثم انطلقوا، فبينما هم معرسون في مكان إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل من الليل، فكانت عائشة قد خرجت لحاجتها، فجاء رجلان فحملا الهودج الذي كانت فيه، ولم يشعرا أنها ليست فيه.
فجاءت فوجدتهم قد ارتحلوا ولم تجد أحداً في مكانهم فقالت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذكرني، فأقامت في مكانها وصلت الفجر وجلست فيه تذكر الله، فلما كان وقت الضحى مر بها رجل من الصالحين من المسلمين، وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، وكان رجلاً مخبتاً يبقى في آثار الجيوش ليأتي بما يتركوه ورائهم، وليحفظ عليهم أمتعتهم، ويحفظ عليهم ظهورهم، فرآها فعرفها، فاسترجع واستعبر -أي: بكى- وولاها ظهره، وأناخ لها راحلته فركبت عليها من الخلف، وقاد بها حتى لحق بالجيش.
وكان المنافقون قد خرجوا في تلك الغزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا الإفساد، فأرادوا أولاً إيقاع حرب بين المهاجرين والأنصار حين قالوا: لقد غلبنا هؤلاء الجلابيب على مدينتنا، فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فرد الله عليهم بسورة المنافقين في ذلك.
وأرادوا كذلك إيقاع الفتنة بين المسلمين، فرموا عائشة بما برأها الله منه، فكان ذلك خيراً للمسلمين، رفع الله به منزلة عائشة ومنزلة أبيها أبي بكر، بل ورفع به منزلة رسوله صلى الله عليه وسلم وزاد أجره، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:١١].
وقد رفع الله منزلة أبي بكر حين وصفه بقوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:٢٢]، وكذلك رفع منزلة عائشة في قوله: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:٢٦].
هذه أعلى شهادة يمكن أن تحصل عليها امرأة، حين جعلها الله كفؤاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خيرته من خلقه، وأفضل خلقه، قال الله تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:٢٦].
قالت عائشة: لقد نلت أحد الوعدين وأنا راجيةٌ للثاني.
فنالت أحد الوعدين وهو العاجل، أي: الرزق الذي وعدها الله به في هذه الحياة الدنيا، وهي راجيةٌ للوعد الآخر؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، وهو المغفرة الأخروية، الشاملة لما تقدم من ذنبها وما تأخر.