الغريب أن هذه الكتب جميعاً فيها أماكن تبقى مصونة، وأرزاق تبقى مدخرة لبعض المتأخرين، فيفتح الله لهم فيها ما كان مسدوداً على من سواهم؛ ولذلك قال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين.
ويقول أحد علمائنا رحمه الله: وقسمة الحظوظ فيها وادخلوا فهم المسائل التي تنعقل فيحرم الذكي بالفهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزلي فالقضية كلها أرزاق، ومن هنا فقد يرزق المتأخر فهماً لم ينله المتقدم، وأنتم إذا دخلتم أية مكتبة ستجدون فيها كثيراً من كتب التفسير، فيعجب الإنسان لماذا لا يستغني الناس بتفسير فلان عن بقية التفاسير؟!
و
الجواب
أن بعضها لا يغني عن بعض؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل إلينا هذا القرآن بأساليب متنوعة مختلفة، وجعل فيه رزقاً لكل جيل من أجيال هذه الأمة، كل جيل يفهم منه ما لم يفهمه من قبله، فلذلك لو أردت أن تستغني فقط بتفسير ابن جرير الطبري المتوفى سنة ثلاثمائة وعشر من الهجرة، أو أن تكتفي فقط بتفسير أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة ثلاثمائة وثلاثة، أو أن تكتفي فقط بتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفى سنة ثلاثمائة وسبعة وعشرين؛ فإنك حينئذ ستقتصر على ما كان لدى السلف، وقد تجدد بعدهم الكثير من الفهم الذي لم يصلوا إليه في القرآن، وهي أرزاق، ولو كان السابقون لخصوا وأخرجوا الزبدة من الكتب لما بقي للمتأخرين أثر وفائدة، بل لأمكن الاستغناء بتآليف المتقدمين عن المتأخرين، وهذا لا يقول به أحد، فلذلك احتيج في كل عصر من العصور إلى مؤلفات جديدة، ولا يزال الوقت دافعاً إلى ذلك، وبعض الناس اليوم إذا رأى من يؤلف أي كتاب يزهده فيه فيقول: لماذا تؤلف في هذا وقد ألف فيه السابقون؟ ولكن الواقع أن لكل أهل عصر مفاهيمهم، وهذا يقتضي منهم أن يفهموا كثيراً مما كان غامضاً، ومما يكون متشابهاً من متشابهات القرآن، فالقرآن {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران:٧]، وهذا التشابه يزول مع الزمان، قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}[يونس:٣٩]، فـ (لما): هي في الماضي المنقطع، معناه: أنهم سيأتيهم تأويله، وهذا يقتضي بالضرورة أنه سيشرح لهم، وتأويله: هو بروزه للأيام ومشاهدة معانيه، كما قال ابن رواحة رضي الله عنه: خلوا بني الكفار عن سبيله نحن ضربناكم على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله أي: بروزه للأيام، ولذلك نفهم اليوم في كثير من آيات القرآن ما لم يفهمه السابقون والسلف الصالح، وليس ذلك تفضيلاً للمتأخرين على المتقدمين، بل هو رزق الله، كما رزقنا آلات ووسائل لم تكن لديهم، مثل آلات رفع الصوت، وآلات التسجيل، وآلات الطباعة، وآلات معرفة الوقت، فهذه وسائل لم تكن لدى المتقدمين، وفتح الله لنا فيها، فكذلك الفهم والأشياء المعنوية يفتح الله فيها أيضاً للمتأخرين بحسب.