[تفاوت الناس في الإيمان بقدر ما يقوم بقلوبهم]
السؤال
ما معنى قول حنظلة: (نافق حنظلة)، وما علاقته بالإيمان وزيادته؟
الجواب
بالنسبة لحديث حنظلة رضي الله عنه أنه خرج يبكي فلقيه أبو بكر فسأله: (ما يبكيك؟ فقال: نافق حنظلة.
فقال: ولم؟ قال: إنا إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكرنا الجنة والنار، فإذا خرجنا من عنده وعاشرنا أهلنا لم نستشعر ذلك)، الحديث في صحيح مسلم، وهذا الحديث وإن كان يشعر بأن مقام التذكر والتأثر يتفاوت إلا أنه هنا يتعلق بالإحسان لا بالإيمان من ناحية المصطلح العقائدي.
فقد ذكرناه أن الدين ثلاثة عناصر: الإيمان.
والإسلام.
والإحسان.
فحديث حنظلة هنا يتعلق بالإحسان، لأنه فيما يتعلق بإيثار الآخرة على الأولى والانشغال بها، وتعلق القلب بالله وبما عنده، والخوف منه ورجائه، فهو فيما يتعلق بالرجاء والخوف والاتصال بالله، لا فيما يتعلق بالإيمان من حيث الجانب العقدي.
كذلك ما ورد في الآثار من نسبة زيادة الإيمان لبعض الناس مع أن أعمالهم ليست أكثر من أعمال من سواهم، لكن إخلاصهم وأعمالهم الباطنة قد تكون أكثر، والعمل هنا يشمل الجميع.
وأيضاً: فقد تطلق زيادة الإيمان على الإطلاق الأول الذي لا خلاف فيه، وهو إطلاق الإيمان على كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المقصود بذلك الاجتباء.
فإن الله سبحانه وتعالى قسم أهل الإيمان إلى قسمين: القسم الأول: الذين اجتباهم، وهؤلاء ملأ الله قلوبهم من الإيمان دون أن ينشغلوا ودون أن يتعبوا أنفسهم بالمجاهدة.
والقسم الثاني: الذين هداهم، وهؤلاء هم الذين أتعبوا أنفسهم بالمجاهدة وبمحاولة زيادة القناعة وزيادة الطمأنينة في القلب.
وذكر الله سبحانه وتعالى القسمين في قوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:١٣]، فالاجتباء لم يشرطه إلا بمشيئته، والهداية اشترطها بالإنابة، والإنابة من عمل المكلف وفعله، وبهذا يتبين الفرق بين الأمرين.
وهذا المعنى قد أخذه الصوفية حين فرقوا بين الجانبين، فذكروا أن الواصلين لله سبحانه وتعالى بمعرفة الله ينقسمون إلى قسمين: أهل اجتباء، وأهل هداية.
فأهل الاجتباء سموهم بالمجذوبين، وأهل الهداية سموهم بالسالكين، ولذلك يقولون: المجذوب لا يُسلِّك، والسالك يمكن أن يُسلِّك.
المقصود هنا: أن من ملأ الله قلبه بقناعة الإيمان دون أن يتعب نفسه بالعمل ودون أن يتعب نفسه بالتعلم والمجاهدة لا يستطيع أن يربي غيره؛ لأنه ما عرف المفاوز ولا عرف كثيراً من العلل والمشكلات التي تمر بها النفوس.
أما السالك الذي تعب بالمجاهدة والصبر، فصبر عن معصية الله وصبر على طاعته، وعانى مزالق النفوس وعرف أوقات الضعف وأوقات الإقبال على الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يستطيع أن يُسلِّك، بمعنى: يستطيع أن يربي.
وهذا الكلام وإن كان في الأصل مصطلحاً من مصطلحاتهم لكنه مقبول شرعاً؛ لأنك تعرف الآن أن بعض الناس أذكياء بفطرتهم، يمكن أن يقرأ أحدهم الكتاب فيستوعبه بالمرة الواحدة لكنه لا يستطيع شرحه، أما من درس الكتاب وشرح له وفهمه، فإنه يستطيع أن يشرحه وأن يبين كثيراً من الأمور التي لا يمكن أن يعرفها الأول بمجرد القريحة.
فإذاً: هذا فرق بين الأمرين، فهو مثل الفرق بين طريقتي الجذب والسلوك.
وعلى هذا فأولئك الإخوان الذين جاءت فيهم بعض القصص والحكايات وبعض الآثار الصحيحة، واتصفوا بزيادة منسوب الإيمان ومستواه، لعلهم من الذين اجتباهم الله ولم يتعبوا أنفسهم بالمجاهدة والعمل، ولهذا جاء في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح البخاري: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أسلم وأقاتل، أم أقاتل ثم أسلم؟ فقال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً)، فهذا أصبح من أعلى الصحابة منزلة؛ لأنه أصبح من الشهداء مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا يقال فيما يتعلق بالذين ماتوا قبل أن ينزل كثير من القرآن، فإن خديجة بنت خويلد توفيت ولم تصل الصلوات المفروضة، ولم تصم؛ لأن رمضان ما فرض بعد، ولم تحج حجاً واجباً؛ لأن الحج ما فرض إلا بعد موتها، ولم تزك؛ لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، ومع ذلك فهي من أكمل الناس إيماناً، وكثير من التفصيلات لم تتعلمها قط.
وكذلك صاحب عبد الله بن عمرو الذي قال له: (إني لاحيت أبي فأريد المبيت عندك إلخ)، فليس عنده كثير صلاة ولا كثير صيام ولا ذكر، لكنه كان لا يجد في قلبه ضغينة على مسلم، فبهذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.