وجاء فبال في المسجد، فجعل الناس يزحزحونه ويصيحون عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:(لا تزرموه لا تزرموه، فتركوه حتى قضى بوله، ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة).
وكذلك قال للرجل الآخر الذي تكلم في الصلاة فصمته الناس وضربوا على أفخاذهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(دعاني فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني، وإنما وضع يده على منكبي فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن).
وكذلك جاء رجل آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يريد أن يؤمن وهو شاب حدث، فقال: يا محمد! إني أريد أن أتبعك وأدخل في دينك، لكني أريد أن أستثني شيئاً أشترطه، قال: وما هو؟ قال: الزنا.
فقال: تستثني بالزنا! فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن هذا الرجل من السفهاء، وأرادوا أن يؤدبوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(دعوه لي.
فدعاه حتى اقترب منه فناجاه فقال: هل ترتضيه لأمك؟ قال: لا.
هكذا تكون الدعوة بالتي هي أحسن، وهكذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين عموماً، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمره أمر لأمته- بقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:١٢٥]، وأمر المؤمنين كذلك بالتي هي أحسن في مجادلة أهل الكتاب في قوله تعالى:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت:٤٦]، فأمرهم في مجادلة أهل الكتاب الذين هم أشد الأعداء وأعتاهم أن يجادلوهم بالتي هي أحسن، وأن لا يصدقوهم وأن لا يكذبوهم، وأن يقولوا:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت:٤٦]، فيأتوا بالمسلمات والمتفق عليها قبل أن يذكروا مسائل الخلاف، وهذا هو أدب الدعوة، فالصحيح أن يبتدئ الإنسان بذكر المسائل المتفق عليها قبل أن يذكر المسائل الخلافية، فإذا صحت المسائل الإجماعية -وهي الأصول والأسس- فإن ما عداها يسهل تغييره وتعديله بعد ذلك.