[ناصر الدين وسياسته المحنكة]
الدعوة إلى الله تعالى استمرت في هذه البلاد، ثم جاءت الهجرات من قبل الأندلس عند سقوطها، ومن جهة القيروان وشرق الجزائر من قسنطينة من بني هلال وغيرهم، فلما جاء هؤلاء العرب النازحون من الأندلس ومن القيروان ومن قسنطينة ومن صعيد مصر، جاء معهم بعض العلماء الأفذاذ، وبدأت الحياة العلمية والدعوية تحيا وتنشط من جديد، ولذلك حاول أهل هذه البلاد أن يعيدوا الدعوة إلى ما كانت عليه في زمن المرابطين، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم والعلم أن يبايعوا رجلاً منهم يتفقون عليه جميعاً على إقامة دين الله تعالى وحماية البيضة، فاتفقت كلمتهم على ناصر الدين بن أبي بكر وبايعوه على الخلافة، وقام بالأمر، وساعده رجال من مختلف الطبقات من هذا المجتمع، فكان العرب الوافدون وسكان البلاد من مختلف الفئات من الزنوج ومن البربر ومن العرب ومن الزوايا كلهم اندمجوا في هذه الدولة، وجاهدوا في سبيل الله تعالى، وأعلوا كلمته، وسعوا في ذلك، حتى إن هذه الدولة كان من سياستها أنها توسعت في بعض البلدان الأفريقية التي لم يصل إليها مد المرابطين من قبل، ففتحوا كثيراً من المدن والقرى في ما وراء نهر صنهاجة، وكذلك في جهة جنوب مالي وجهة غانا وجهة النيجر.
وكان من سياسة ناصر الدين أن كل بلد فتحوه ينصبوا عليه قائداً من أهله؛ لئلا تقع فيه ثورة، فكان لا ينصب قائداً على بلد مفتوح إلا من أهل ذلك البلد، وأخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فإنه ولى عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس وهو من أهل مكة، ولم يؤمر عليها أحداً من المهاجرين ولا من الأنصار، وكان عتاب وقت تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم له في العشرين من عمره.
وكذلك حين فتح الله عليه الطائف أمر عليها عثمان بن أبي العاصي، وهو من بني ثقيف من أهل الطائف.
وكذلك أرسل الضحاك بن سفيان أميراً على البحرين، وهو من بني كلاب، فأمره على بني كلاب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يؤمر على كل جهة رجلاً من أهلها.
وهذه السياسة التي انتهجها ناصر الدين كان لها أثر فيما بعد، وذلك أن هذه الدولة لما سقطت بالحرب الأهلية التي تسمى بحرب (شرببا) كان من الآثار المتوقعة أن البلدان المفتوحة ستتساقط وتعود إلى ما كانت عليه من الكفر قبل فتحها، ولكن الله تعالى عصمها من الردة؛ بسبب تأمير أمراء عليها من بني جلدتهم، ويتكلمون بألسنتهم، ومن عشيرتهم.
أقام ناصر الدين هذه الدولة، وتبعه رجال ساعدوه وقاموا بهذا الأمر أحسن قيام، فأغاض ذلك النصارى من البرتغاليين والأسبان والفرنسيين، فأردوا تشقيق هذه الدولة من الداخل، فأثاروا النعرات العرقية والقبلية بين الناس، فاستجاب لها بعض الأفراد، فكان ذلك سبباً لهذه الحرب التي دامت خمساً وثلاثين سنة، وهي حرب (شرببا)، وفسرت تفسيرات مختلفة، وسميت بتسميات مختلفة، وكثير من الناس يسميها شرببا، ويزعمون أن شر معناها: الحرب وببا: اسم رجل، ولكن هذا غير واقع، فمعنى (شرببا): فتيلة مشتعلة، وذلك أنها فتنة وقعت بين المسلمين أنفسهم في عقر دارهم، ولم يعهدوا هذا من قبل، وإنما كانت الحروب بينهم وبين الكفار، فلذلك جعلوها مثل الفتيلة المشتعلة داخل الصف.
دامت هذه الحرب فترة من الزمن؛ قضت على ما كان من هذه الدولة من هياكل داخلية، ومع ذلك لم تكن شراً كلها، بل أثارت بادرة خير، واستطاع المسلمون فيها أن يحافظوا على كيانهم، وأن يحافظوا على ما معهم من العلم والدين، وبقيت كل فئة من هذا الشعب تحافظ على ما حملت من دين الله تعالى، وتسعى لحفظه، مع أن بعض الآثار السيئة المترتبة على هذه الحرب قد استمرت زمناً طويلاً، حتى إننا ما زلنا في عصرنا هذا نشهد بعض آثارها من الذلة والمسكنة في بعض طبقات الشعب.
وإذا قرأت تاريخهم في تلك الأيام ستجد أنه قد اندمج فيها كل فئات الشعب، وأن كل الناس قد ساروا في ركب الدعوة وفي سبيلها، وجاهدوا جميعاً فيها، ولذلك لم يكن قبل حرب (شرببا) في هذه البلاد طبقات اجتماعية، وإنما كان الناس كلهم مجاهدين في سبيل الله، ساعين لإقامة دين الله، حتى جاءت هذه الحرب فحصل ما رأيتموه وما شهدتموه من التفرقة العنصرية.
إن هاتين الدعوتين اللتين قام بالأولى منهما: عبد الله بن ياسين، وقام بالثانية: ناصر الدين، كانتا مثالاً للحركة الإسلامية المعاصرة، التي تقوم لله تعالى بالحجة على عباده، وتسعى لإقامة الحجة على الناس، ولإعادة الناس إلى المحجة البيضاء، ولإقامة الخلافة في هذه الأرض، ولذلك فإنهما قد قامتا بهذا العمل أحسن قيام، ووفقتا في أداء هذه المهمة على أحسن وجه.