للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضرورة الثبات على الإيمان وفوائده]

إن كثيراً من الناس يظن أنه بسلطانه في هذه الحياة الدنيا، أو بمكانته أو بوظيفته يستطيع أن يضغط على الآخرين، وأن يؤثر فيهم، حتى يغيروا مواقفهم، أو حتى يعدلوا عن الحق الواضح الذي لا لبس فيه، وهذا إنما هو ضرب في حديد بارد، وتخيل في غير موضعه، ولذلك لابد أن يثبت المؤمنون على الإيمان، وأن يعلموا أن الصراط الدنيوي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تمثيل للصراط الأخروي، الذي هو جسر منصوب على متن جهنم، وجاء وصفه في الحديث: (أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلابيب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم: فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم).

وبقدر استقامة الإنسان على هذا الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فلذلك لابد أن نعلم أن كل هذه الضغوط، وكل هذه الأوامر والنواهي التي هي في غير موضعها، صادرة ممن لا يستحق أن يأمر ولا أن ينهى، ولا يملك لنفسه شيئاً، لو شرق من ريقه لما استطاع أن يزيل ذلك، ولو احتبس نفسه في رئته لما استطاع أن يخرجه، ولو احتبس أي شيء من قاذورات بدنه لما استطاع أن يخرجه من بدنه، ومن كان هكذا لا يمكن أن يخافه عاقل ولا أن يطمع فيه، لابد -يا إخواني- أن ننزل البشر منزلتهم، وأن نعلم أن حقوق الإلهية مختصة بالله جل جلاله، لا يملكها أحد ممن دونه.

إن الإنسان إذا اعتقد هذه العقيدة وآمن بهذا الإيمان، فهو مؤمن عبد لله، حر من الأحرار، ليس لأحد عليه سلطان، ولا لأحد ولا عليه ضغط، وهو بذلك متصل بالله جل جلاله، وقوته مستمدة من قوة الله الجبار جل جلاله، ولا يمكن أن يضعف أمام أي سلطان، ولا أمام أي ضغط من الضغوط، ولذلك قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:٣٩ - ٤١]، انظروا إلى الفرق الشاسع بين هؤلاء الذين وصفهم الله بهذا الوصف {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:٤١]، وبين آخرين إذا مكن لأحدهم في الأرض، ولو كان تمكيناً ناقصاً أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف، وأرادوا أن يغيروا حكم الله سبحانه وتعالى، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، ويتجاسرون على الله تعالى في ذلك، وهم في هذا يعلمون أن ما هم فيه زائل، وأن الكراسي التي يشغلونها قد شغلها من هو أطول منهم عمراً ومن سبقهم، وقد قيل قديماً: (لو دامت لغيرك لما وصلت إليك)، ويعلمون أنهم غير مخلدين فيها، وأن لهم يوماً يذهبون عنها ويقفون بين يدي الله سبحانه وتعالى، ليس مع أحد منهم شفيع، ولا يغني عنه نسبه ولا حسبه، ليس له حينئذ إلا ما جنت يداه، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:١١١] حينئذ يعرضون على الله تعالى، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨]، حينئذ يجازون عند الملك الديان بما يستحقون، ولا يمكن حينئذ أن يراعى فيهم نسب ولا حسب {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:٤٨ - ٥١].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.