كذلك من آثار هذه الخشية: البركة في العلم: فالإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلاً، كما قال الله تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:٨٥]، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:٧٦]، لكن إذا خشي الله سبحانه وتعالى وأناب إليه، وكانت الآخرة جل همه، ولم تكن الدنيا جل همه ولا مبلغ علمه، وأقبل على الله سبحانه وتعالى؛ فسيبارك له في اليسير الذي معه من العلم؛ لأن فائدة العلم العمل، وسيوفق الخاشي لله سبحانه وتعالى للعمل بما تعلم، فيكون هذا العلم الذي ناله -ولو كان يسيراً- مباركاً فيه؛ ولذلك يستطيع استغلال الأوقات فيما هو أرشد وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان العالم هو بمثابة التاجر يريد الربح، فهو يبحث عن أرباح الصفقات مع الله سبحانه وتعالى بكل دقيقة أو ثانية يعيشها في هذه الحياة، يبحث عن أفضل ما تصرف فيه الأوقات؛ فيصرفها فيه؛ ولذلك قال أحمد:(لو قيل لـ وكيع: إنك تموت غداً، لما استطاع أن يزيد شيئاً)؛ لأن كل أوقاته مشغولة ليس فيها فراغ ولا وقت ليس فيه عبادة، فهو مشغول بالله سبحانه وتعالى، ومقبل على الله بكل أموره، إذا نام فهو يرجو في نومته ما يحتسب في قومته، كما قال أبو الدرداء، وإذا أكل فمن حلال وسيصرفه بطاعة الله، وإذا شرب فكذلك، فكل أعماله لوجه الله سبحانه وتعالى حتى جلوسه واتكاؤه وقيامه، كل ذلك لوجه الله.
ولهذا فإن أهل الخشية يجعلون هذه الدنيا محراباً كبيراً للتعبد، فكل ما فيها من الأعمال هو عبادة لله، حتى لو كان تجارة أو زراعة أو صناعة أو دراسة لعلم دنيوي، كل ما في الدنيا من الأعمال يجعلونه عبادة لله، فعبادتهم في المحراب في كل أوقاتهم، إذا كانوا في غرف النوم، أو كانوا في المتاجر، أو كانوا في المكاتب، فهم في محراب للتعبد، كل أوقاتهم مصروفة لعبادة الله تعالى ينتظرون الأمر فيبادرون إليه؛ ولذلك قال أحد علمائنا:(ألذ ما في الدنيا أن يأتيك الخطاب وقد تعلمت أحكامه، فتوفق لتطبيقه على نحو ما علمت)، أي: إن ألذ ما في هذه الحياة الدنيا، أن يأتي الخطاب من عند الله، وقد عرف الإنسان حكمه قبل أن يأتيه، فيطبقه على نحو ما تعلم، فهذه اللذة العجيبة التي يجدها أهل خشية الله تعالى في مثل هذا النوع، سعادة من سعادات الدنيا لا يمكن أن يعدلها ما سواها.