كذلك فإن لوسائل الإعلام في تعليم الإجرام دوراً عظيماً، فالمسلسلات المفسدة التي تنشر فيها لنشر الرذيلة ولتعليم وسائل الإجرام كثيرة جداً، بل إن الهوائيات التي تعمل ليل نهار لا تخلو من هذه المسلسلات، فتارة تسمى بالمسلسلات البوليسية، وتارة بالمسلسلات الاجتماعية، وتارة بغير ذلك من الأسماء، لكنها جميعاً تُعلم الرذيلة، وتسعى لترسيخها في النفوس الطرية التي هي على الفطرة!! ومن أغرب ما سمعنا في هذا: أن رجلاً من الملتزمين الخيرين ومن التجار ذوي المال اشترى هوائياً فأدخله في بيته، وهو مشغول في عمله لا يأتي إلا في ساعة متأخرة من الليل وقد نام أولاده، وكذلك فإن أمهم مشغولة عنهم في كثير من الأحيان، فكان أولاده يتابعون هذه المسلسلات فيتعلمون ما فيها من وسائل الإجرام، فوجد أن أحد أولاده يسرق أمواله ويجمعها ويخفيها في مكان من بيته، وكان ذلك بطريقة محكمة جداً للغاية يعجب لها الإنسان، فسأله: كيف جمعت هذا المال؟ ومن أين أتيت به؟ ولماذا تجمعه؟ فقال: لا أريد ذلك لأي شيء، ولكن لأشبع به رغبة أجدها في نفسي تعودت عليها من المسلسل الفلاني!! رسخت هذه القيم في هذه النفوس التي كانت على الفطرة، وتعودت عليها.
والأدهى من هذا والأمرُّ: أن رجلاً آخر كانت تجربته أخطر من هذه وأفظع، فله أولاد وبنات وكانوا يتابعون هذه المسلسلات وهو يعلم بذلك، وفي ذات يوم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا بابنته مريضة، فارتاب من مرضها، فأخذتها إلى المستشفى فإذا هي متلبسة بحمل، فكاد أن يموت غماً، وأخذها إلى بيته وضربها، فقالت: لا تضربني، فأنا أحدثك بكل ما تسأل عنه، فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا من أخي، كنا نتابع المسلسل الفلاني فطبقناه، وهما في أول البلوغ، نسأل الله السلامة والعافية!!! فعاد عليه وبال هذه الأجهزة، فقام إليها وكسرها من لحظته، لكنه ندم حيث لا ينفع الندم! إن كثيراً من الناس يتعودون على الإجرام ويتعلمونه بتجارب الآخرين، وبأمور خيالية أيضاً في بعض الأحيان، فينقلون هذه التجارب، وتنتشر بين الناس، وتشيع في الأرض.
إن قتل الإنسان لنفسه لم يكن مألوفاً أبداً لدى الناس في هذه البلاد، لكنه ظاهرة منتشرة في أمريكا وفي أوروبا كلها، فتجد الإنسان يطلق الرصاص على نفسه، أو يشنق نفسه، أو يحرق نفسه في بعض الأحيان إذا كان مطالباً بديون لا يستطيع تسديدها، أو عليه غرامات كبيرة، أو خاب أمله في أمر معين، أو قد اقترف جريمة فاطُّلع على تلك الجريمة، أو خشي أن يُطَّلع عليها!! بل تجد كثيراً من الساسة في بلاد الغرب إذا عرف أن أحدهم قد تعاطى رشوة أو أخذ هدية فشاع ذلك في الإعلام؛ قتل نفسه ورأى هذا تخلصاً من جريمته!! فيظن أنه سيتخلص من كل مسئولياته وتبعاته بمجرد إزهاق نفسه، فيقتل نفسه ويتعجل الدخول إلى النار، نسأل الله السلامة والعافية! لكن من المستغرب جداً أن ينتشر هذا الأمر في بلاد الإسلام، وأن يطرق أبواب المسلمين الآمنين، فمثل هذه البلاد المحافظة التي يغلب على سكانها الالتزام بالإسلام والتحلي بآدابه وأخلاقه، من المستغرب جداً أن يحرق الإنسان فيها نفسه بين الناس، أو أن يقدم على شنق نفسه، أو إطلاق الرصاص على نفسه لأي سبب من الأسباب.
لكن الناس إذا علموا أن فلاناً من الناس قد قتل نفسه حملوا ذلك على أحد محملين: إما أن يقولوا: هو مجنون، أو أن يقولوا: قد اقترف جريمة مالية، أخذ أموالاً فاطلع عليها فقتل نفسه ليستر جريمته، أو ليتخلص منها، لكن سبب هذه الجريمة لا ينحصر في هذين السببين المذكورين؛ بل كثير من الناس مأنوس غير مجنون، كثير من الناس سرت إليه هذه العادات من الناس أنفسهم لا من الجن.
فكثير من الشباب الذين يتربون بين ذويهم في بيئات صالحة يخالطون شباباً آخرين هم في غاية الفساد، فسرعان ما تنتشر إليهم عدوى هؤلاء، وتنتقل إليهم كانتقال النار من المادة القابلة للاحتراق والاشتعال إلى مادة مجاورة لها، كما قال الشاعر: عدوى البليد إلى الجليد سريعة والجمر يوضع في الرماد فيخمد كذلك في المقابل إذا وضع الفحم على الجمر فسرعان ما يشتعل.
إن كثيراً من الناس يتهم الجن بأنهم هم الذين أفسدوا أخلاقهم أو أفسدوا عقولهم، والواقع أن الجن من هذا برآء، بل كثير مما يقدم عليه البشر يستغربه الجن، ولا يستطيعون الإقدام عليه، إنما يتعود عليه هذا الجنس البشري الذي هو أشد قسوة من الحجارة، فقلوب البشر أشد قسوة من قلوب الجن؛ ولهذا يقدمون على أمور مستغربة جداً مستبشعة، ولذلك فالمأنوسون في هذا الباب أكثر من المجانين، الذين سرت إليهم عادات الإنس فأتلفت عقولهم وتصورهم أكثر من الذين أضر بهم الجن وأثروا على عقولهم.