إن هذه الحكمة مقتضية لرحمة المؤمنين والغلظة والشدة على الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}[التوبة:١٢٣]، وكما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة:٧٣].
أما أهل الإيمان حتى لو فسقوا وبغوا فإن المؤمن عليه أن يكون حريصاً على هدايتهم، وأن يخاطبهم باللين بالتي هي أحسن، وكذلك خطابه مع الكفار الذين يريد هدايتهم ولم تنقطع الشعرة بينه وبينهم عليه أن يخاطبهم أيضاً بأسلوب مهذب، كما قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون:{فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:٤٤]، فهذا تنبيه لموسى وهارون على أمر من أبجديات الدعوة، وهو من المخاطبة، فلا بد أن يوطد له الكلام، وأن يهيئه له، وأن يخاطبه بلين لعله يتذكر أو يخشى؛ لأنه إذا وجدت الشدة فسيقول له ما قاله عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وإذا خوطب بالتي هي أحسن فربما لان وهو ذو قسوة، وربما ضعف وهو ذو شدة؛ لأنك تصادف مكان اللين فيه، وتخاطبه من مقتله، وقد وصلت إلى قلبه، والنافذة ليست مغلقة، أما إذا خاطبته بالشدة فسيغلق الباب أمامك وستصطدم بالجدار ولن تصل إلى القلب، ومن هنا فإن العاقل إذا أراد الدخول يبحث عن النوافذ والأبواب المفتوحة، ولا يحاول اختراق الجدار، فالذي يريد الوصول إلى القلوب واختراق النفوس ينبغي أن يبحث عن النوافذ والأبواب المفتحة ويدخل منها بكل لطف ولين، وحينئذ يصل إلى مطلوبه بالتي هي أحسن، وليس معنى هذا أن يتنازل الإنسان عن دعوته وأمور دينه ليوصف بأنه هيّن لين، بل يأخذ ذلك مرحلياً فقط، ويجعله وسيلة لإبداء حرصه وحسن نيته للناس لعل الله أن يهدي به رجلاً واحداً.
فمن أجل هذا تجد كثيراً ممن تعامله يومياً إذا خاطبتهم باللين وجدت فيهم ليناً، وإذا خاطبتهم بالشدة قابلوك بالمثل أو بأشد، ولذلك يحسن بك أن تأتي بلطف ولين، وأن تدخر قوتك لوقت الحاجة إليها، ولا تهمل قوتك ولا تكن من المستضعفين الأذلة، لكن ادخر هذه القوة إلى وقت الحاجة، أما قبل أن تحتاج إليها فإن إهدارها في غير موضعها ليس من الحكمة، وكثيراً ما يؤدي إلى نتائج عكسية.
وإني ل أذكر أن مجموعة من الطيبين الخيرين ذهبوا إلى مسجد في عدن قد بني على قبر، وكان فيه جماعة من المصلين يصلون، فأرادوا تغيير منكر معين وهو الطواف حول هذا القبر، فهدموا المسجد على المصلين، فقتلوا عدداً من المصلين وهم في سجودهم، فكانت طامة كبرى ومصيبة عظمى، وقتل هؤلاء وشرد بهم من سواهم، وأعيد بناء المسجد بأشد مما كان، وحرس أشد مما كان محروساً به، فهذا من التصرفات الرعناء التي يتصرفها بعض الناس من غير حكمة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، وقد مكث ثلاث عشرة سنة بمكة لم يكسر صنماً واحداً، وكان على الكعبة حينها ثلاثمائة وستون صنماً، وقد كان يسكن في دار الأرقم وهي على الصفا، وعلى الصفا صنم اسمه (إساف)، وعلى المروة صنم اسمه (نائلة)، بل كان أهل الجاهلية يسمون المروة والصفا إسافاً ونائلة، كما قال أبو طالب: وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم بمفضى السيول من إساف ونائل ومع ذلك لم يكسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنماً واحداً من هذه الأصنام، حتى جاء الفتح فوقف عليها وكسرها جميعاً، وكان يقول وهو يهدمها:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:٨١]، وأرسل السرايا فهدم كل الأصنام في البلدان المجاورة، ولو كان هدمها في وقت الاستضعاف وقوة المشركين لبنوها من الذهب بعد أن كانت من حجارة، وما كان من طين بنوه من فضة، وهكذا أخذ بالحكمة وعلمنا ذلك، وهذه الحكمة ليست مقتصرة على لين الكلام في الخطاب للناس، بل هي تشمل كذلك تأخير بعض التصرفات عن بعض الأوقات، وتعجيل بعض التصرفات في بعض الأوقات، وتعجيل إبداء الموقف من بعض الأمور، وإخفاء الموقف من بعض الأمور، وكذلك تقتضي أن يقدم لشخص الأولويات ويؤخر ما دونها، وأن يأخذ بأخف الضررين والحرامين، كما قال تعالى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:١٠٨]، وكما قال تعالى حكاية عن لوط عليه السلام:{هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}[هود:٧٨].
ومن أنواع هذه الحكمة في الدعوة أنه إذا أراد الإنسان أن يغير سلوكاً لدى آخر لا يجابهه بأن هذا السلوك محض ضلال وابتداع وشرك ونحو ذلك، بل يتعرف عليه أولاً، ويحاول أن يحصل على ثقته وصداقته، ثم يسأله عن هذا التصرف ما دليله عليه، وما حاجته إليه، فإن بين له دليلاً مرضياً قال: الحمد لله؛ فصاحبي غير مشرك وغير مبتدع، وإنما كان مجتهداً فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران.
ومن الحكمة في الدعوة أن لا تحتكر أنت الصواب، وتجعل الحق هو ما عندك فقط، فتكون أنت المحتكر للحق وحده ومن سواك أهل باطل، فهذه طريقة غير صحيحة، كل الناس خطاؤون وخير الخطائين التوابون، ولا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر، ومن هنا فعليك أن تنظر إلى الناس على أنهم عباد الله جميعاً كما أنك عبد من عباد الله، وأن لا تنظر إليهم على أنك رب وهم مملوكون لك، وأن لا تنظر إليهم على أنهم جميعاً أهل خطأ وأنت وحدك صاحب الصواب، بل تنظر إليهم على أنهم بشر مثلك مكلفون بنفس التكليف الذي أنت مكلف به، فقد امتن الله عليك ببعض النعم، فلا ينبغي لك أن تتجاهل تلك النعمة ولا أن تتغطى بها، ولا تقتضي منك العدول عن منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.