كذلك فإن عقيدة المسلم هذه تقتضي منه أن يميز بين الخالق والمخلوق تمييزاً كاملاً، فمقتضيات الألوهية لا يعدل بشيء منها إلى المخلوق لعلمه أنها من خصائص الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يمكن أن يصرف شيئاً منها للمخلوق، فلا يمكن أن تصرف عبادة للمخلوق أياً كانت لا في ظاهرها ولا في باطنها، فالمؤمن ذو الشخصية الإسلامية القوية لا يصرف شيئاً من عبادته الباطنية لمخلوق، فلا يرائي ولا يلتفت بشيء من عباداته لغير الله، لعلمه بالمراقبة الحقيقية (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).
وكذلك لا يعدل عنه بشيء من عباداته الظاهرة، فلا نذر للمخلوق، ولا رجاء ولا خوف؛ لأنه لا يأتي من عنده إلا ما كتبه الله، ومن هنا لن يصرف للمخلوق أي جزء من أجزاء العبادة بأي وجه من الوجوه؛ لأنها من خصائص الألوهية، حتى لو كان هذا المخلوق أشرف الخلق على الله وأكرمهم لديه وأحبهم إلى الناس وأنفعهم لهم، فرسل الله وملائكته المقربون عليهم السلام هم أبلغ عباد الله تحقيقاً لهذه العقيدة؛ ولهذا قال الله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:٥٧] ويقول في وصف الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:٩٠] ويقول في وصف من ارتضى عملهم، ويدخل فيهم الأنبياء وغيرهم:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ}[السجدة:١٦ - ١٨].
هذا الأساس مقتض لهذا التميز وعدم الميوعة، أما من اختل لديه شيء من الأسس العقدية فسيضع كل شيء في غير موضعه، فيجعل العبادة في غير موضعها فلا يتجه بها اتجاهها الصحيح، ويجعل التوكل في غير موضعه فلا يتجه به الاتجاه الصحيح، ويجعل الخوف والرجاء في غير موضعهما فلا يتجه بهما الاتجاه الصحيح، ومن هنا يصاب بالتذبذب كحال المنافقين الذين قال الله فيهم:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}[النساء:١٤٣].