كذلك من هذه العقبات التي تحول دون التوبة الجهر بالذنب، فالمجاهرة بالذنوب يعتبرها بعض الناس شجاعة، وبذلك يجاهر أمام الناس بذنبه ليبدي لهم شجاعته وأنه لا يخاف أحداً ولا يستطيع أحد أن يغير عليه وليس لأحد عليه يد، لكنه يجهل في هذا الوقت ربه، ولا يتذكر قدرة الله الذي السماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه، والقلوب كلها بين أصبعين من أصابعه، وأنفس العباد كلها بيده متى شاء أخذها، ولهذا تجرأ عليه وتجاسر.
والإعلان بالذنب دعوة إليه، والدعوة إليه محادة لله تعالى، فالذي في قلبه فطرة الإيمان يشمئز ويقشعر من الذنوب، فإذا رأى ذنباً من الذنوب اشمأز منه واقشعر، لكنه سرعان ما تزول هذه القشعريرة بكثرة رؤية الإنسان للذنب وتكرره عليه؛ لأن كثرة المساس تزيل الإحساس.
وقد كان الناس إذا ذكر اليهود اقشعرت الأجساد واشمأزت القلوب، وتذكروا أنهم إخوان القردة والخنازير، لكن لم يزل الأمر بالتدريج يخف حتى أصبح كثير من الناس يشتري بضاعة اليهود ويأتي بها، وحتى أصبح كثير من الناس يعامل أفرادهم الذين يأتون، حتى أصبح بعضهم يتنفس فوق هذه الأرض الطاهرة التي ما عرفت من قبل أنفاس اليهود إخوان القردة والخنازير، فتزول هذه القشعريرة والاشمئزاز الذي كان في النفوس بكثرة المساس؛ لأن كثرة المساس تزيل الإحساس.
وإنك لتقشعر وتشمئز إذا رأيت امرأة تكشف عن رأسها في الشارع إذا كنت في بلد ما زال أهلها بخير، لكنه يأتي بالتدريج والتقسيط، فتنزع حجابها عن مقدمة رأسها، فإذا سكت الناس تجاوزت ذلك إلى ما وراءه حتى تنزعه بالكلية، وبذلك يتعود الناس على هذا الذنب، ويزول عنهم ما كانوا يجدونه في نفوسهم من كراهيته والاشمئزاز منه.
ومثل هذا ما كان حاصلاً عند الناس من كراهية الربا والتعامل به، والحرص على طهارة الكسب، فقد أدركنا الناس قديماً يتحدثون عن فترة مضت من حياة أهل بلاد كان الناس فيها يشمئزون من الذين يبيعون اللبن وهو في الضروع؛ لأنهم يعتبرون هذا رباً، وكان الهجاء يحصل به بين الناس، لكن اليوم أصبح الربا منتشراً، وأصبح القوي الشجاع هو الذي يتجرأ على الربا، ولم يعد أمراً يهجى به ولا منقصة لدى الناس؛ لأنهم قد تعودوا عليه وتجاسروا عليه، وأصبح معاش الناس منه، نسأل الله السلامة والعافية! ومن لم ينل منه ناله من غباره، وهكذا البدع كلها، فإنها تنشأ ضعيفة ملتوية كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم لا تزال تقوى إذا سكت الناس عنها ولم تجد رادعاً ولا منكراً، وكثير من المنكرات اليوم من تعرض لإنكارها اعتبر مجنوناً أو مخالفاً؛ لأن الناس أصبحت هذه المنكرات لديهم معروفة ولم تعد منكرات بسبب ترسخها ومضي الزمان عليها.
وهكذا في كل الأمور، فأي ذنب أعلن به الإنسان وجاهر فهذا مدعاة لئلا يتوب منه أبداً، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هذا الجانب ينبغي التنبيه إلى الفتن، فهذه الفتن التي نعيش فيها لا يستشعرها كثير من الناس، فكثير من الناس يظن أن عقله محل ثقة، وأنه لا يمكن التلبيس عليه أبداً، وأنه سيتضح له الحق إذا رآه واضحاً، ويتضح له الباطل إذا رآه واضحاً، ولا يدع مكاناً للفتنة، لكن أهل الإيمان يخافون الكفر والنفاق ويخافون الفتنة، ويعلمون أنها حاصلة في الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:(اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، لكن المفتونين اليوم إذا نبه أحدهم على شرك وقع فيه، أو على أمر مخالف لعقيدة النبي صلى الله عليه وسلم التي جاء بها قال: أنا لا أخاف على نفسي من الكفر، ولا من الشرك.
ونزه نفسه عن هذا، كأن لديه أماناً من الله من الفتنة.
إن هذه العقول لا يوثق بها أمام الفتن، فكم رأينا من إنسان يقدم على ما يخالف مقتضى العقل عندما يفتن؛ لأنه ينفذ فيه القدر، وإذا جاء القدر عمي السمع والبصر، والله تعالى يقول في كتابه:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[الأنعام:١٠٩ - ١١١]، فلهذا يفتن صاحب المعصية المجاهر بها الذي يجاهر بها في البداية شهوة أو حباً للشجاعة والذكر، أو معاكسة للناس ومخالفة لهم، ويظن أنه سيعود ويرجع، ولكن الفتنة تأتي، وسيستمر على معصيته من حيث لا يشعر.