إذا ظهر الإجرام في بلد فسيتعدى ضرره وينتشر، وإذا لم تعالج الناس العقوبة فإنه يعالجهم ما يتعلق بذلك الإجرام -نسأل الله السلامة والعافية- من الشؤم؛ فإن لكل ذنب شؤماً يلحقه، وهذا الشؤم لا يختص بصاحب الذنب الذي اقترفه، بل يتعداه إلى من سواه.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بعض مظاهر الإجرام التي حصلت في الأرض، وهي تبين تاريخ هذه الجريمة على هذه الأرض، فهذه الأرض كانت نقية طاهرة، يُعبد عليها الله وحده، كان بها الملائكة، فأراد الله -لحكمة بالغة- أن يمتحن هذا الجنس البشري، فيحله في هذه الأرض الطاهرة الطيبة التي فيها ما يحتاج إليه بنو الإنسان من الأقوات والأمكنة، وكل ما يحتاجون إليه في شئون حياتهم، فامتحنهم الله سبحانه وتعالى بالتكاليف، فكان منهم المفسدون الذين هم إلى النار صائرون، نسأل الله السلامة والعافية! فعندما بيَّن الله للملائكة أنه سيعمر هذه الأرض بجنس البشر، قالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة:٣٠] رعب الملائكة من جرائم بني آدم حين اطلعوا عليها مستورة في اللوح المحفوظ، فعندما أطلعهم الله على ما تؤول إليه هذه البشرية في هذه الأرض، رعبوا من هول هذه الجرائم.
وهذه الجرائم هي بمثابة قنابل ذرية يفجرها الإنسان في هذه الأرض، فتتأثر بها كل الكائنات الحية، وتتأثر بها الحيتان، وتتأثر بها الطيور في السماء، وتتأثر بها ذرات السهول، وتتأثر بها أرحام الأرض وما تنبته، ويتأثر بها كل أنواع النبات، والمكان الذي فجرت فيه بعد عدة قرون لا تزال الولادات فيه مشوهة، ولا تزال الأمراض فيه تنتشر.
أرأيتم القنبلة التي فجرها الأمريكان فوق مدينة (هيروشيما) اليابانية، فهذه القنبلة مازالت إلى الآن آثارها واضحة حتى في الولادات، فالولادات مشوهة، وانتشر السرطان والأمراض الخبيثة؛ بسبب قنبلة واحدة كانت من نوع بدائي في أول نشأة القنابل الذرية، فكيف بهذا الإجرام الذي هو معصية، والذي هو أعظم من هذه القنابل كلها وأفتك!! إن جريمة واحدة على هذه الأرض تضج الأرض إلى الله منها وتشكو، والإنسان الذي يجرم في مكان قد حله من قبله ملك مقرب كان يسجد لله في هذا المكان، وأنت تقف فيه يا عبد الله تخلف هذا الملك في المكان الذي كان يقف فيه، فإذا أتيت بجريمة تصوَّر حال هذه الأرض وقد كانت تحس بسجود هذا الملك المقرب الذي لا يعصي الله تعالى في المكان، وترى خلافتك أنت لهذا الملك في هذا المكان.
أو حتى لو تصورنا ما هو أقرب من هذا، هذا المكان الذي يعصي فيه البشر كان فيه من قبلهم من الناس الذين كانوا يطيعون الله تعالى ولا يعصونه، فتصور المكان الذي تزاول فيه المعصية كم قد وقع فيه من الطاعات لله سبحانه وتعالى، وكم قد عمره من الصالحين! فإنه يضج إلى الله تعالى من الاقتراف الذي تقترفه فيه، وما يقابله من السماء والهواء والملائكة المكلفون بحفظك وحفظ المكان، كل ذلك يشهد عليك بإجرامك الذي تدمر به البلد.
إن الله سبحانه وتعالى بيَّن لنا أنه مكَّن لنا في آثار السالفين السابقين الذين سبقوا، وجعلنا خلفاء من بعدهم في هذه الأرض، فامتحننا بذلك؛ ليعلم ما نحن صانعون، وهو أعلم؛ فهو سبحانه وتعالى لا يتجدد له وجود علم، وإنما يمتحن الناس بذلك؛ ليشهد عليهم ويُشهد عليهم ملائكته؛ حتى لا ينكر أحد منهم شيئاً مما فعل، فيأتي ومعه الشاهد والسائق والرقيب ويأتون معه ليشهدوا عليه بما اقترف.
يحتاج الإنسان إلى التنبه؛ لأن فترة حياته محدودة، ولأن المكان الذي يعمره من هذه الأرض محدود {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء:٣٧] فعليه ألاَّ يكون مسرفاً مجرماً فيعمر هذا المكان بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وبما لا يرضي المكان نفسه، فالمكان يشهد عليه بكل ما فيه.