ومن هنا فلو توقف هذا الصراع لحظة واحدة، فخلص الحق على الأرض واستقام الناس، أو خلص الباطل على الأرض وكفر الناس، لم يكن لهذه الدنيا معنىً ولا فائدة، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، فلذلك امتحننا الله بهذه الحياة الدنيا، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون؟)، فهذه الدنيا دار استخلاف وامتحان، يمتحننا الله سبحانه وتعالى فيها، فلو تمحض فيها الحق لنجح الناس جميعاً، واستحقوا الخروج من هذه الدنيا التي هي دار الأكدار إلى دار القرار، ولو كفروا جميعاً لرسبوا في الامتحان، وحل عليهم غضب الله الأكبر:(إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله).
فاحتيج إذاً إلى أن يبقى في هذه الأرض صراع مستمر بين الحق والباطل، وهذا الصراع لابد فيه من مروق وخروج على صراط الله ومنهجه، وهذا المروق والخروج منه ما يسير عن يمين الصراط ومنه ما يسير عن يساره، فما كان عن يمين الصراط فهو غلو وتجاوز للحدود التي حدها الله سبحانه وتعالى، وابتداع في الدين، وما كان عن شماله فهو تقصير عن الدين ونقص منه، وكلا الأمرين مذموم، وهذا الصراط الدنيوي الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، هو تمثيل للصراط الأخروي الذي هو جسر منصوب على متن جهنم: أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.