والناس في سبيل الذكرى ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: قوم لا يستطيعون تحمل الذكرى ولا سماعها بالكلية، ولذلك يكرهون المواعظ ويكرهون سماعها، وهؤلاء هم الكثرة الذين قال الله فيهم:{فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:٤٩ - ٥١]، فهم يفرون من الذكرى كما يفرون من الأسد، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرَةٌ}[المدثر:٥٠]، وفي قراءة أخرى:{مُسْتَنْفِرَةٌ}[المدثر:٥٠] أي: قد نفرت من تلقاء نفسها، أو نفرت فأسرعت {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:٥١] أي: من أسد.
القسم الثاني: الذين يسمعون الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى قلوبهم؛ لأنه قد انقطع البث بين الأذن والقلب بسبب الختم الذي ختمه الله على القلوب، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[محمد:١٦].
القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيستطيعون سماعها من بعض الناس لأنه يعجبهم، ولا يستطيعون سماعها من آخرين لأنهم ليسوا على المستوى الذي يعجبهم ويناسبهم، وهؤلاء الذين في قلوبهم مرض فيريدون التفصيل، من أعجبهم شكله أو نسبه استطاعوا أن يتحملوا منه أو يسمعوا، وهنا لم يستمعوا إلى الذكرى وإنما استمعوا إلى الأشخاص، ولذلك قال الله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:٣١ - ٣٢].
القسم الرابع: قوم يسمعون الذكرى من أي طرفٍ صدرت، فيستفيدون منها، ويستغلون ذلك الاستغلال الصحيح، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:٩ - ١٠]، فالذين يخشون الله هم الذين سيذكرون، {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[الأعلى:١٠ - ١٣]، وقال الله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً}[الفرقان:٧٣]، وقال تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ * {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:١٧ - ١٨]، وقال تعالى:{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}[يس:١١]، وقال تعالى:{فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:٥٥]، فهؤلاء هم المستفيدون من الذكرى الذين ينتفعون بها.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا من الذين ينتهزون الفرص قبل فوات الأوان، وأن يجعلنا من الذين لا يندمون حين يندم الناس حيث لا ينفع الندم، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، ونسأله سبحانه وتعالى الفرح عند لقائه.
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اختم بالحسنات آجالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! وفقنا لما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق واصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا أنت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.