تقبل التوبة إلا في حالين: الحال الأول: حال الغرغرة فإذا غرغر الإنسان وهو قد ودع الدنيا وختم على صفحات أعماله وأصبح الموت أقرب إليه من شراك نعله فحينئذ لا تقبل توبته؛ لأن أعماله قد ختمت، وهو يشاهد قبل الموت أحوالاً عجيبة هي التي ذكرها الله في قوله:{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}[الزمر:٤٧]، فالمرء عندما يدبر عن الدنيا ويقبل على الآخرة يرى أموراً عجيبة لم تكن تخطر على باله، ولم يكن يتصورها بوجه من الوجوه، يشاهد ملائكة ربه، فيرى ملك الموت الذي يأتيه لقبض روحه، ويرى الملائكة الآخرين الذين كأن وجوههم الشموس يجلسون مد البصر وهم مادو أيديهم: أخرجوا أنفسكم.
ويشاهد كذلك الفتان الذي يدعوه للموت على غير الإسلام، فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[إبراهيم:٢٧]، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المؤمنين أن يستعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ففتنة المحيا هي قبل الموت عند الغرغرة، وفتنة الممات هي سؤال القبر الذي يسأل فيه الإنسان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ وفي هذه الحال حال الغرغرة لم يعد للإنسان أمل الرجوع، فلذلك توبته هي من قبيل توبة فرعون عندما أدركه الغرق فقال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ}[يونس:٩٠ - ٩١]، فلا يتقبل الله ذلك، فلهذا ترد التوبة ولا تقبل في حال الغرغرة، وأكثر الكفار يتوبون في وقت الغرغرة؛ لأنهم يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولهذا ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن النصارى جميعاً يبدو لهم عيسى قبل موتهم، فيخبرهم أنه عبد الله ورسوله وليس ابن الله، وذلك مصداق قول الله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}[النساء:١٥٩]، فيعرض عليهم عيسى بن مريم بصورته عند الموت فيقول: أنا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، ولست ابن الله، ولست الله.
فتقوم عليهم الحجة بذلك، ويشهد عليهم عيسى يوم القيامة، لهذا قال:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي: ليؤمنن بعيسى {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت الشخص من أهل الكتاب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}[النساء:١٥٩] بذلك أنه قد بلغهم أنه ليس ابن الله، وليس هو الله، وإنما هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، هذا مذهب جمهور أهل التفسير.
وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود على عيسى بن مريم، فيكون معنى (إلا ليؤمنن به قبل موته) أي: قبل موت عيسى بن مريم فإن عيسى بن مريم سينزل في آخر الزمان، ولن يموت قبل ذلك، وإذا نزل آمن به كثير من أهل الكتاب وصدقوا عندما يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقاتل اليهود حتى يقتل المسيح الدجال.
الحال الثاني الذي لا تقبل فيه التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها.
لأن الحجة قد قامت، فهذه الدنيا كلها دار امتحان، والناس فيها مبتلون بهذه الأعمال، والامتحان إذا انكشف وعرفت نتيجته وعرف جوابه فلن يعود النجاح حينئذ وارداً، فإذا وقف الأستاذ وحل الامتحان وشرحه للناس فما فائدة أن يأتي شخص في مؤخرة الركب ويقول: أنا أحل لك الأسئلة وأعيد عليك ما قلت لنا؟! هل يعتبر هذا ناجحاً في الامتحان؟! لا يعتبر ناجحاً فيه، فكذلك بعد أن تطلع الشمس من مغربها فإن الناس قد قامت عليهم الحجة النهائية في هذه الدنيا، وقد أقبلت الآخرة مرتحلة، وأدبرت الدنيا مرتحلة كذلك.
ومن هنا لا تقبل التوبة ممن كان حياً قبل مطلع الشمس من مغربها، والله سبحانه وتعالى يقول:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}[الأنعام:١٥٨]، فإذا طلعت الشمس من مغربها فهذا بعض آيات ربك، وإذا جاء ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ويدخل في ذلك أنواع التوبة من الذنوب كلها.