[توحيد الله في ربوبيته]
توحيد الله في ربوبيته معناه: الجزم بأنه هو الواحد الأحد الذي خلق هذا العالم، وليس للعالم رب سواه، وهذا التوحيد هو أصل الإيمان؛ لأنه ينبني عليه كل ما بعده، فما بعده كله تابع له، فمن اعتقد تعدد الآلهة أو أن للعالم خالقاً غير الله لا ينفعه أي توحيد آخر بعد هذا.
ولهذا فإن المشركين الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثير منهم يؤمن بتوحيد الربوبية، فكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك.
أنت تملكه وما ملك.
وكذلك فإن الله تعالى أثبت عليهم هذا التوحيد في القرآن في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:٦٣] , فلم يكونوا يخالفون في هذا التوحيد إلا نادراً.
والذين يخالفون في هذا التوحيد أجناس، منهم الدهرية، والطبيعيون الذين نسميهم في زماننا هذا بالشيوعيين، الذين ينكرون وجود إله أصلاً، ويزعمون أن هذه الحياة مادة، وأن طبيعة العالم تفرز الطفرات، وأن الطفرة الكبيرة التي اقتضت الانقسام بين السماء والأرض، واقتضت توزع الكائنات هي منشأ هذا العالم، ومنها تغيرت الأمور وكانت بطبيعتها تتولد وتحتك، والاحتكاك الدائم الذي فيها يقتضي حصول تنوع شديد، وهذا الذي قالوه رد الله عز وجل عليه في كتابه بآية هي أبلغ دليل على هذا، وأبلغ دليل على إنكار تأثير الطبيعة هي قول الله سبحانه وتعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:٤].
لو كانت الطبيعة مؤثرة فما الفرق بين هذه البقعة في هذا المتر الواحد يخرج فيه أجناس من النبات متفاوتة متباينة الألوان، ومتباينة الطعوم، ومتباينة الرائحة، وقد نبتت في تربة واحدة، وسقيت بماء واحد؟! {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:٤] طعمها مختلف، فالمكان الواحد تخرج فيه نخلة، وتخرج علقمة، وتخرج وردة، وتخرج ثمرة أخرى مباينة لها، فتجد الشبر الواحد من الأرض فيه ألوان متلونة، فلو كانت الطبيعة هي التي أثرت فيها لجاءت جميعاً على شكل واحد وطعم واحد وفائدة واحدة، فعلم أن هذا بإرادة الله وتقديره، وأنه لا يمكن أن تقع طفرة دون مؤثر؛ لأن كل فعل لا يقبل العقل حصوله دون تأثير ودون مؤثر، وهذا المؤثر لا يمكن أن يكون جاهلاً به؛ إذ لو كان جاهلاً به لاختلطت الأشياء واختل نظامها.
ولا يمكن أن يكون قد خفي عليه، لتمام تناسقه وانسجامه، فعلم بطلان اعتقاد الطبائعيين، علم بطلانه عقلاً بهذه الآية، وعلم بطلانه لما يترتب عليه من فساد العالم كله، فلو كانت الطفرة التي يزعمونها صحيحة فلماذا تأخرت ولم تقع طفرة أخرى في آلاف السنين التي تأتي؟ ومن الذي حدد وقت تلك الطفرة؟ وما هي العوامل التي عملت على وقت تلك الطفرة ولم تعمل على ذلك في زماننا هذا؟ لماذا لا يقع انفجار كبير كما يزعمون في آلاف السنين التي جاءت بعد ذلك؟ إن هذا رد واضح وصريح على هذه الطائفة التي تنكر الإلهية؛ وطائفة الدهرية نسبةً إلى الدهر، وهذه من النسبة الشاذة، ولغة العرب فيها شواذ النسب، مثل الدهريين، ومثل الطبعيين، ومثل الخرفيين، وغيرها من النسب الشاذة.
كذلك من الذين ينكرون توحيد الربوبية الذين يزعمون أن لهذا العالم خالقين وهما: النور، والظلمة.
وهؤلاء يسمون بالمانوية، وهم يزعمون أن النور هو إله الخير، وأن الظلمة هي إله الشر، وأنه لا خالق لهذا العالم سوى هذين الإلهين، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وجوابهم العقلي أن يقال: زعمتم أمرين موجودين في هذا العالم مؤثرين فيه، فمن خلقهما؟ هل خلقا أنفسهما أو خلقهما إله ثالث؟ وهنا لا بد أن نصل بهم إلى الدور أو التسلسل، فالدور أن يرجعوا من حيث بدؤوا، فيقال: النور خلقته الظلمة والظلمة خلقها النور.
فيأتي الدور المستحيل؛ لأنه يتوقف كل واحد منهما على وجود الآخر فينعدمان ولا يكونان أبداً.
أو نذهب إلى التسلسل، فيقولون: النور والظلمة خلقهما إله ثالث، وذلك الإله الثالث خلقه إله آخر، وهكذا حتى يصلوا إلى حوادث لا أول لها، وهذا يمنعه العقل.
ولذلك يقول أبو الطيب المتنبي: وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب فظلام الليل استفاد منه كثيراً في مغامراته وهروبه، فقال: إن ظلام الليل يخبر أن المانوية تكذب، فليس هو إله الشر؛ لأنه أتى بالخير.
كذلك الذين يزعمون أن هذا الكون إلهه فرعون -مثلاً- من عباده، حيث زعم هو أنه لا إله لهم سواه، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وقد كذب نفسه؛ لأنه حكم على نفسه بجهله بالسماوات وما فوقها بقوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ} [غافر:٣٦ - ٣٧] , فكيف تخلقها وأنت تجهلها وتجهل ما فوقها؟ فقد رد على نفسه.
إذاً: فالمخالفون في توحيد الربوبية قلة، والموجود منهم في زماننا هذا هم الشيوعيون وبعض عبدة الأوثان في الديانات الهندية فقط.