للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التكفير في مسألة خلق القرآن]

السؤال

نأمل أن تتعرض للخلاف في مسألة خلق القرآن، وهل هو كفر دون كفر، أم هو كفر أكبر، كما ذهب إلى ذلك بعض السلف؟

الجواب

إن قضية التكفير والحكم على شخص أو جماعة بالكفر ليست من مسائل الاعتقاد، وإنما هي في مسائل الفقه والأحكام.

والإيمان ضده الكفر، فما كان ركناً من أركان الإيمان وأنكره شخص فإنه يكفر بذلك.

وينقض الإيمان دون ذلك أشياء تُسمى نواقض الإيمان؛ وكذلك تُبطل الأعمال أشياء دون هذا.

ومسألة خلق القرآن بالخصوص، قد ذكرنا من قبل أنه يجب على المسلم أن يعتقد أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق، وقد ذكرنا أدلة ذلك، ولكن قد قالت طائفة من هذه الأمة -وهم المعتزلة- بأن القرآن مخلوق، وشاعت شبهتهم، وانتشرت حتى أخذ بها بعض أئمة المسلمين وقادتهم الذين بايعهم الناس، واختلفت مواقف الناس إذ ذاك: فمن السلف في ذلك الزمان من أعلن تكفير كل من قال بخلق القرآن، وأنه كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة؛ ولكنه لا يطبق ذلك على الأفراد، ولا يستطيع أن يصفهم بهذا الوصف، وذكروا في استدلالهم على ذلك أن القرآن من الله، ولا شيء من الله مخلوق.

وهم لا يقصدون بقولهم (من الله) أنه جزء منه سبحانه وتعالى بل هو منزه عن ذلك، وإنما يقصدون أنه كلامه.

وهذا من الاستدلال باللوازم؛ لأن النصوص لم يرد فيها ما يصح مما يقتضي التكفير، بل جاء في ذلك حديثان، وكلاهما موضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر)، فالأحاديث الواردة في ذلك موضوعة.

وقالت طائفة أخرى منهم: بأنه يجلد ويحبس، وأنه قد ابتدع وقال قولاً عظيماً لم يأتِ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما يخالف دلالات النصوص؛ لكن التكفير أمر صعب؛ لأنه قد جاء ثمانية أحاديث صحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المسلم لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما)، وكقوله: (فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة.

وبعض العلماء حمل قول الذين قالوا: (هو كفر مخرج من الملة)، على أن المقصود به التشنيع والتنفير منه؛ ليكون ذلك رادعاً للناس عن الابتداع، وإذا سمعوا من العلماء من يقول: (هذا كفر)، استشنعوه وفروا منه، وعلى هذا حمل الخطابي رحمه الله قول القائلين بالتكفير به، وحكاه عنه ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وذكر عن أبي نصر الصيفي قولين للسلف الصالح في التكفير به.

لكن تبقى مسألة أخرى وهي: أن المعين -أي: من قال بخلق القرآن بخصوصه، أو قال قولاً كفراً، أو فعل فعلاً كفراً- لا يكفر إلا إذا توافرت فيه شروط التكفير، وقد ذكرنا هذه الشروط من قبل؛ ولذلك كان الإمام أحمد يقول: لو لم يكن لي إلا دعوة صالحة واحدة لجعلتها للخليفة، وكان يصلي خلف المعتصم ويدعو له، ويقول له: (يا أمير المؤمنين)، ولم يستبح الخروج عليه، ولو كان يرى أن من قال بخلق القرآن يكفر بذلك لكفَّره، واستباح الخروج عليه، ولم يدعُ له؛ لأن الله تعالى يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:١١٣].

وقد نشر هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي: (١١/ ٤٨٧) وذكر مائة صفحة في الكلام على هذه المسألة، وتعرض لها في مواضع أخرى في كتابه: (الرسائل الماردينية)، فذكر أنه يصلى خلف هؤلاء إلا من كان منهم داعية لذلك، واعتمد في هذا على الرواية المشهورة عند الحنابلة، وهي التي اختارها ابن قدامة، أما المعتزلة والجهمية فلا يكفر منهم إلا من كان داعية لبدعته معلناً بها، بل في اختيار ابن قدامة في رسالته المشهورة: أنه لا يكفر داعيتهم إذا كان مجتهداً في طلب الحق، وعلم منه أنه غير صاحب هوىً، فلا يكفر بذلك.

وقد ذكر هذا القول كثير من أئمة الحنابلة مذهباً لهم، وهو المذهب عند المالكية والحنفية، وكذلك الشافعي رحمه الله؛ فإنه عندما ناظر حفص الفرد في مسألة القرآن، فقال: لقد كفرت بالله العظيم، قال أصحابه: لم يكفره؛ إذ لو كفره لسعى في قتله، والذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا مذهب الشافعي؛ وذلك أن الشافعي رحمه الله ذكر في الأم كلاماً على الشهادة، قال: لقد كان الناس يختلفون -يقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم- فما كان أحد منهم يُكفر أحداً ولا يُبدعه ولا يفسقه؛ ولهذا أقبل شهادة جميع أصحاب المقالات إلا الخطابية؛ فإنهم يستبيحون الكذب لنصرة من وافقهم في نحلتهم، فلا يرد شهادة أحد من أصحاب المقالات.