للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العمر الشخصي للإنسان وكيفية استغلاله في الطاعة]

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان حياتين: إحداهما هي هذه الدار التي هي دار عمل ولا جزاء، والأخرى هي دار الآخرة التي هي دار جزاء ولا عمل.

وجعل الإنسان يبدأ بهذه الدار الدنيا التي اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو لقربها، أو مشتقاً من الدناءة؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

جعل الإنسان يبدأ هنا بهذه الدنيا ليتزود للدار الآخرة، وجعل هذه الحياة الدنيوية إنما هي ورد وعرض زائل، وجعل الدار الآخرة هي الحيوان، أي: الحياة المتجددة الباقية.

وأتاح للإنسان ثلاث فرص للنجاح في الامتحان، هذه الفرص هي التي يمكن أن نسميها أعماراً.

فالعمر الأول: عمر الإنسان الشخصي الذي يبدأ من النفخ فيه، نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، كما في الحديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد).

فمن هنا يبدأ عمر الإنسان الشخصي، وينتهي بقبض الروح منه، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤]، {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:١ - ٢].

وهذا العمر ما يعمل الإنسان فيه من خير وشر فإنه يجده يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:٣٠]، وهذا العمر أمده مجهول، لا يدري الإنسان متى يناديه منادي الله، لكنه يعلم أنه إذا ناداه فلن يتأخر لحظة، ويعلم أنه إذا ناداه منادي الله فلن تتاح له فرصة للتأخر، لكنه لا يدري متى يناديه المنادي.

ومن هنا فإن على الإنسان أن يجتهد قبل أن يناديه المنادي إلى الدار الآخرة للنجاة، عليه أن يجتهد في عمره هذا ليتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يكون وسيلة سعادته يوم القيامة يوم العرض على الله، وهذا العمر المحدود في علم الله المجهول لدى الإنسان يعتري الإنسان فيه كثير من الشواغل والصوارف التي تحاول فتنته وصرفه عن استغلال هذا العمر فيما يرضي الله، ومع ذلك فهذا العمر ثمين جداً، وهو رأس المال، والإنسان فيه محتاج إلى أن يستغله أبلغ استغلال، ولا يمكن أن يسعد إذا أهمل هذا العمر الذي هو طريق نجاته وطريق سعادته، فإما أن يستغله الاستغلال الصحيح فيتغلب على الشواغل والصوارف التي تصرفه عن هذا الاستغلال، وهذا هو النجاح الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالربح في قوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً تجاراً، لكن منهم من ينجح في تجارته فيربح، ومنهم من لا ينجح في هذه التجارة، فالعمر هو رأس المال، بمثابة الدراهم التي لدى الإنسان يقضي بها حاجته، كما قال الحكيم: والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي به حاجاته فكل أربع وعشرين ساعة هي محطة من محطات العمر، تنادي كل دقيقة من دقائقها إذا لم تستغل: قد ضاعت منك فرصة يا ابن آدم.

لأنه بالإمكان أن يقول الإنسان في كل لحظة منها: لا إله إلا الله، فيجدها وقت الحاجة إليها، وهو يعلم أنه سيحال بينه وبين ذلك، فإذا مات وأخذت روحه فإنه لن تتاح له الفرصة بعد ذلك ليقول: لا إله إلا الله.

ومن هنا فإن هذه الصوارف والشواغل إذا اتبعها الإنسان سيتمنى على الله الأماني، وسيغره الشيطان ببقائه في هذه الدنيا ويوسوس إليه ويخيل إليه أنها دار بقاء وأنه مستمر فيها، ولذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الشيطان يعقد على قافية رأس ابن آدم ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم) يريد أن يحول بينه وبين ما يقربه إلى الله من الطاعة، فيحاول أن تمضي الأوقات في المعصية، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً حاول أن تكون فارغة لا للإنسان ولا عليه، وهذا هو غاية الخسران؛ لأن هذه الساعات إذا لم تشحن بالطاعة فإما أن تشحن بالمعصية -نسأل الله السلامة والعافية- فتكون حسرة ووبالاً، أو تمضي فارغة ليس فيها فائدة، فيكون الإنسان قد قامت عليه الحجة، وأنعم الله عليه بنعمة التعمير، ويناديه يوم القيامة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:٣٧].