[صفة الرؤية وذكر درجات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل]
ثم قال: [وأنه جل يرى في الآخرة] وكذلك من الصفات الجائزة في حقه عقلاً وقد أثبتها الشرع: أنه يُرى في الآخرة؛ وذلك أن أهل الإيمان يرونه سبحانه وتعالى.
ورؤيتهم له درجات: الرؤية الأولى: الرؤية بالموقف؛ فإن أهل الإيمان يرونه، فيتجلى لهم في صورة، ثم يتجلى لهم في أخرى.
الرؤية الثانية: رؤيتهم له عندما يسلم عليهم وقت دخولهم الجنة، كما في الحديث: (بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، يقول: سلام قولاً من رب رحيم).
الرؤية الثالثة: هي أنه يستزير أهل الجنة، فيأمرهم بزيارته تشريفاً وتكريماً لهم، ولا يراه إلا أهل الإيمان؛ لأن هذا غاية التشريف والإكرام، ومن رآه حصل له من التشريف ما لا يحصل له بأي شيء آخر، ولهذا لا ينظر أهل الجنة إلى شيء من نعيمهم ما داموا ينظرون إلى ديان السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
ولهذا فإن أهل الإيمان هم الذين يرون ربهم، وإن كانت رؤيتهم متفاوتة بتفاوت درجاتهم في الإيمان، وعلى هذا يتفاوتون تفاوتاً بالغاً في مستوى الرؤية، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر أو هذا البدر لا تضامون في رؤيته، أو: لا تُضامون في رؤيته).
وقوله: (لا تضامون في رؤيته)، أي: لا يحول بعضهم دون بعض، ولا يؤثر عليه في الرؤية.
وقوله: (ولا تُضامون في رؤيته) معناه: لا يحال بينكم وبينه، فمن حيل بينه وبين رؤيته وحجب عنه فقد ضيم وأذل غاية المذلة، نسأل الله السلامة والعافية، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:١٥ - ١٦].
فالذين يحجبون عن رؤيته سبحانه وتعالى هم أهل المذلة الدائمة، وأهل الإيمان لا يضامون في رؤيته، ولذلك قال: [وأنه جل يُرى في الآخرة فاقرأ إذا شئت وجوه ناظرة] ومن أدلة هذا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:٢٢] * {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٣].
وقد سبق الكلام في الرؤية، وذكرنا ما فيها من المسائل الاتفاقية والمسائل الخلافية، ومن المسائل الاتفاقية: أنه سبحانه وتعالى يُرى في الآخرة، وذكرنا أنواع الرؤية الثلاثة: الرؤية في الموقف، والرؤية عند دخول الجنة، والاستزارة.
وكذلك ذكرنا المسائل الخلافية في الرؤية: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ وهل يُرى الله سبحانه وتعالى في النوم؟ وهل يجيز العقل رؤيته في الدنيا؟ هذه ثلاثة أمور، وهي التي نظمها السيوطي رحمه الله في قوله: والخلف في الجواز في الدنيا وفي نوم وفي الوقوع للهادي اقتفى فهذه ثلاثة أمور وقع الخلف في جوازها في الدنيا: جواز العقل، ورؤيته في النوم، وفي الوقوع للهادي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيانها، وسبق الترجيح فيها.
وقد ألف الدارقطني رحمه الله كتاباً مختصاً في الرؤية، جمع فيه أحاديثها وآثارها؛ لأن المعتزلة أنكروها، وهي من أوائل الصفات التي اشتهر إنكارها بينهم.
وهي من الصفات الجائزة عقلاً؛ لأنه سبحانه وتعالى موجود، وكل موجود يصح أن يُرى، وإلى هذا أشار بقوله: [الله موجود وما به امترا وكل موجود يصح أن يُرى]