للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اتهام النفس]

الثالث: اتهامها: فهذه النفس ينبغي أن تكون دائما في قفص الاتهام، ومن لم يراقبها ولم يجعلها في قفص الاتهام، فإنها تغويه وتذله من حيث لا يشعر، ومن هنا فإن النفس بصيرة على الإنسان، فإذا أرخى لها الحبل على الغارب نادته: سأذهب بك إلى الحضيض، وإذا أخذ بزمامها استطاع أن يسير بها إلى المراتب العالية.

يقول السيوطي رحمه الله: ومن تكون نفسه أبيه تطمح للمراتب العليه رجا فخاف فأصاخ فأحب مأموره وما نهى عنه اجتنب أحبه الله فكان سمعه وعقله ويده ورجله واعتده من أوليائه وإن دعاه أجابه أو يستعن يعن أما الذي همته دنيه فلا مبالاة له سليه ففوق جهل الجاهلين يجهل وتحت سبل المارقين يدخل فخذ صلاحاً بعد أو فسادا وشقوة ترديك أو إسعاداً وقرباً أو بعداً وسخطاً أو رضاً وجنة الفردوس أو نار لظى فالإنسان من هذا الجانب مخير من زمام نفسه، إن شاء أطلق لها الزمام فسارت به إلى أسفل سافلين إلى الحضيض الأدنى، وإن شاء طمح بها إلى المراتب العلية، فانقادت له وراء ذلك، وإذا راقبها هذه المراقبة أتت طائعة فإذا دعاها إلى عبادة وخير استسلمت وانقادت، وإن دعيت إلى شر وجدت تأبياً وتمنعاً من ذلك.

أما الذي لا يعالج نفسه هذا العلاج، ولا يجتهد في مجاهدة نفسه عما تهوى أو تحب، فإنه إذا دعاها إلى العبادة تكاسلت، وإذا رأت أنه سيحملها علي طاعة من الطاعات نفرت مثل الدابة، فالدابة إما أن تكون مطيعة وإما أن تكون شروداً حروناً، فكذلك النفس، فإذا عودها الإنسان على إزالة هذه الأخلاق الذميمية، كانت كالدابة المطيعة المنقادة التي يحمل عليها ما شاء، وتسير به حيث شاء، وإذا عودها على هذه الأوصاف الذميمة وأرخى لها الحبل على الغارب كانت حرونا شروداً إذا احتاج إليها نفرت منه ولم يستطع أن يمسك بزمامها، وإذا أحست ببردعة أو بأي حمل سيحمله عليها نفرت منه.

إذاً: لا بد من مراقبة النفس هذه المراقبة، فالذي إذا سمع الأذان (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، أخذه النعاس وبحث عن الوسادة فنفسه لم تنقد له بعد، وهي مريضة بهذا المرض العضال المخوف ومن نام على فراشه ولم يستيقظ من الليل ولم يستطع إذا تعار من الليل أن يذكر الله وأن يتوضأ وأن يصلي وأن يحل عقد الشيطان، فنفسه مريضة بهذا المرض.

والذي لا تطاوعه نفسه على صوم النذر، أو لا تطاوعه على صوم النفل أو لا تطاوعه على إنفاق المال، أو لا تطاوعه إذا أراد أي خير من الخيرات، فنفسه مبتلاة بهذا المرض العضال ولابد من معالجته قبل فوات الأوان، ولا بد أن يضعها في قفص الاتهام وأن يحاسبها محاسبة دقيقة، وليعلم أن أمامه حساباً آخر أكبر من هذا حساب عندما توضع الموازين القسط ليوم القيامة فتوزن فيها الأعمال بمثاقيل الذر، لذلك كان لزاماً عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب.