[تأمين الله الأرزاق في الأرض]
إن من تدبير الله سبحانه وتعالى أن أمّن الأرزاق في هذه الأرض، ولم يجعلها ملكاً فردياً لمكتشفها، وإنما جعلها للبشرية، فجعل المال الذي في الأرض ملكاً لله سبحانه وتعالى، والبشر مستخلفون فيه فقط، وهذا يقتضي منهم ألا يبذروا فيه وألا يسرفوا، وألا يحجروه على أنفسهم، وألا يمنعوا الآخرين من الانتفاع به؛ لأنه مال الله، والإنسان فيه مستخلف فقط، فهو بمثابة الوكيل ينتظر العزل في كل حين.
وعزله يكون بالموت، فينتقل ويترك ما وراءه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:٩٤]، أو يكون عزله بالحجر عليه، فلا يستطيع التصرف في ماله بقهره وسجنه، أو بمرضه مرضاً يمنعه من التصرف، أو بنقص عقله بكبره وهرمه، أو غير ذلك من أنواع العزل التي يعزل الله بها من شاء عن التصرف فيما جعل تحت يده من المال.
والله سبحانه وتعالى بين لنا أن هذا المال الذي جعل في هذه الأرض، ملك له سبحانه وتعالى، وليس ملكاً لنا، وأنه استخلفنا فيه فقط، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:٧]؛ ولهذا خاطب الملائكة بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] أي: مستخلفاً فيما في الأرض من أنواع الخيرات والأملاك، وبين أنه خلق لنا هذا بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:٢٩].
وهذا ينقسم إلى ثلاثة أنواع: ما خلق انتفاعاً، وما خلق اعتباراً، وما خلق اختباراً: فما خلق انتفاعاً مثل: أنواع الأرزاق التي في هذه الأرض وينتفع الناس بها.
وما خلق اعتباراً، مثل: ما في هذه الأرض مما لا ينفع ولا يضر، وإنما نراه فنتعظ، كأنواع الحشرات غير السامة وغير الضارة التي إذا حفرنا في الأرض أمتاراً، نجد فيها أنواع الدود وغيرها من أنواع الحيوانات التي تعيش في جوف الأرض، ويتعظ الإنسان فيها فيقول: من أين يأتيها الهواء؟ ومن أين يأتيها الماء؟ وكيف تعيش؟ وكذلك ما نراه في الصحاري من أنواع الغزلان والوحوش وغيرها، يقول الإنسان: من أين يأتيها الماء؟ وكيف تعيش؟ وما غذاؤها؟ فيتذكر قول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:٦]، وحينئذ سيكون الإنسان متعظاً مستفيداً من هذه الحيوانات وغيرها مما خلق الله في الأرض، فلم يخلق الله شيئاً عبثاً، بل كل ما في الأرض لحكمة بالغة: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:١٦].
النوع الثالث: هو ما خلق اختباراً، وهو ما يسلطه الله على الإنسان من أنواع الجراثيم، ومن أنواع الميكروبات، وأنواع الأوبئة الفتاكة، وحتى أنواع الأسلحة الفتاكة التي ييسر الله من يكتشفها ويستغلها، فهي خلقت اختباراً للبشرية، فالإنسان يمرض، ويصاب بالمصائب، ويموت، وكل ذلك اختبار له: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢]، فكلها من الاختبارات والابتلاءات العجيبة.
إن هذه الأرزاق إذا علمنا أنها مملوكة لله سبحانه وتعالى فإن علينا ألا نبذر فيها، وأن نعدل في توزيعها، ولا نحتكرها، وألا ندخرها لأنفسنا دون من سوانا، وهذه هي الأسس التي قام عليها الاقتصاد الإسلامي، فكل مشروع حضاري أياً كان، لا بد أن تظهر ثمرته للموضوعات الحساسة التي يعيشها الناس، وإن من الموضوعات الحساسة التي يعيشها الناس موضوع الاقتصاد، وإن النظرة الإسلامية للعالم كله مشروع حضاري متكامل، فمن أجل ذلك اقتضى بيان أوجهه المختلفة، وبالأخص الكلام في الموضوعات الحساسة منه كموضوع الاقتصاد البشري؛ فلذلك لا بد أن يظهر للمسلمين رأي بارز ونظرة موضوعية حيال هذا الاقتصاد، وحيال اكتسابه، وحيال توزيعه، فإن الطاقة التي في الأرض، والنفع الذي فيها ملك للجميع، يدخل فيه المؤمن والكافر، فليس للمؤمن أن يحتكر الخيرات ويمنع الكافر منها.
ولهذا نص العلماء على أنه لا يجوز للمؤمن إذا لم يجد من الماء إلا ما يكفي لوضوئه أو لشرب كافر أو كلب عقور أو حيوان غير محترم، لا يحل له أن يميته بالعطش ويتوضأ بذلك الماء، بل إما أن يسقيه ويتيمم، أو أن يقتله ويتوضأ بالماء بعد قتله، وذلك أنه مشارك له في هذا الماء وله حق فيه، وهذا يشمل جميع الحيوانات، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بغياً من اليهود غفر الله لها ذنبها؛ بسبب كلب مرت به عند بئر وهو يلهث ويأكل الثرى من العطش، فنزلت ونزعت موقها فاغترفت به من الماء، وأمسكت بفيها حتى صعدت وسقت الكلب، فغفر الله لها).
وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض)، فهذا يقتضي اشتراك كل أنواع الحيوانات في هذه الأرزاق التي خلقها الله في هذه الأرض، وانتفاع الجميع بها.