للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التقصير في جمع الدنيا ليس منهجاً نبوياً ولا فعله السلف

وفي المقابل لابد من أن نعرف أن التقصير في جمعها هو قصور من الإنسان، فالذي ينصرف عنها بالكلية، ولا يريد أن يدبر شيئاً من أمور الدنيا، ولا أن يكتسب شيئاً: خارج عن المنهج الصحيح، ولم يسلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب وأعملها ولم يتركها، ولو كان الزهد المحمود شرعاً مقتضياً لترك الأسباب والانقطاع للعبادة والرهبانية، لعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما لم يعملوه، ووجدنا منهم التجار، ووجدنا منهم الأغنياء المنفقين في سبيل الله، ووجدنا أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على الآلاف من الأرامل واليتامى، ووجدنا أنه ادخر قوت سنة لأهل بيته، ووجدنا أنه صلى الله عليه وسلم أفاء الله عليه أرض بني النضير، فادخر بعضها لعياله، ووجدنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يغرس النخل بيده بأبي هو وأمي، وكان يحلب الماء بيده صلى الله عليه وسلم، وساعد في غراس نخل سلمان الذي كاتبه عليه أولياؤه، ورأيناه يذهب إلى الأسواق ويشتري ويمشي فيها، وهذا ما استنكره عليه المشركون، وأقره الله عليه في كتابه، ورأينا أصحابه وهم أفضل أهل الأرض بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، منهم التجار كـ أبي بكر رضي الله عنه الذي كان يعول كثيراً من الأسر وينفق عليهم من ربح تجارته، وكان رأس ماله أربعمائة درهم، فكان يبيع فيها في البز -أي: الملابس والزيت- فما ربح أنفقه على الذين ينفق عليهم.

ووجدنا كذلك عبد الرحمن بن عوف وكان تاجر الله في هذه الأرض، بارك الله له في صفقاته، فهو ينفق على كثير من اليتامى والمساكين، وقد أوصى بثلث ماله لبقية أهل بدر فكان غناهم جميعاً.

ووجدنا منهم الزبير بن العوام الذي كانت استثماراته في الأراضي الشاسعة والمزارع الكبيرة، وقد ترك مالاً كثيراً كان ثمنه الذي قسم بين زوجاته غنىً لهن! ومنهم أبو طلحة الأنصاري الذي كان له من المزارع الشيء الكثير، وكان يملك بيرحاء وهي أحسن مزرعة في المدينة، وكان يصلي تحت كل نخلة ركعتين.

ووجدنا منهم سعد بن عبادة بن دليم وكان من كبار التجار والأغنياء الذين إذا رجعوا من صلاة الضحى ذهبوا إلى مزارعهم، وإذا ارتفع النهار ذهبوا إلى تجاراتهم، فإذا حان وقت الزوال اشتغلوا بالصلاة، فإذا رجعوا منها قاموا بحق أهليهم، وهم يوزعون أوقاتهم هذا التوزيع، ولا يفوتهم شيء من الخير.

إذا عرفنا ذلك عرفنا أن المنهج المعتدل يقتضي عدم الإفراط وعدم التفريط.

فالذي يظن أن الزهد في الدنيا يقتضي منه ألا يشتغل بجمع الدنيا كاذب مخالف للمنهج الصحيح، وإنما سلك طريق اليهود والنصارى الذين ابتدعوا رهبانية من عند أنفسهم.

والذي يظن أن الله لا يرتضي لعباده جمع الدنيا من حلها كاذب، فإن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:١٥]، وجعلنا خلفاء في الأرض فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠]، وأمرنا بإصلاحها وعدم إفسادها بعد إصلاحها، فكل هذا يقتضي منا أن نعمل وأن نصلح في هذه الأرض، لكن مع ذلك لابد أن نعلم أن الإصلاح فيها، وأن جمعها لا يقتضي أن تكون في القلوب، بل تكون في الأيدي على وفق المنهج السابق.