قوله (ويستدل لوجود الفاعل)، فأول ما يتعلق به النظر: أن يستدل لوجود الفاعل، أي: لوجود الله سبحانه وتعالى، وكنى عنه هنا بالفاعل؛ لأنه هو الفاعل بالاختيار، والفاعل، أي: الذي يحدث فعلاً.
والفاعل من ناحية التقسيم العقلي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - الفاعل بالاختيار، وهو: الذي لا يتوقف فعله على وجود شرط ولا على انتفاء مانع، وهذا هو الله سبحانه وتعالى وحده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلا يتوقف فعله على الشروط ولا على انتفاء الموانع، يحدث الشيء دون سببه، ويمكن أن ينبت النبات دون مطر، يمكن أن يخلق إنساناً من غير أب ولا أم وأن يخلقه من غير أب، وأن يخلقه من غير أم وهكذا، إذاً: فعله لا يتوقف على الشروط ولا على انتفاء الموانع.
- النوع الثاني من أنواع الفاعل: الفاعل بالطبع، وهو الذي يتوقف فعله على الشروط وانتفاء الموانع، وذلك مثل فعل الإنسان في حركته وسكونه، ففعله يتعلق بالأسباب، فكل سبب يؤدي إلى شيء آخر وراءه كتحريك مقود السيارة الذي تمسكه بيدك وذلك يحرك شيئاً آخر، وذلك يحرك شيئاً آخر حتى تتحرك السيارة بكاملها، أو الضغط على البنزين فإنك لا تصبه مباشرة في مكان المناسب ولكنك تضغط على الذي يليك وذلك يضخ في مكان آخر وهكذا حتى يصل الزيت إلى مكان النار.
فأفعالك إذاً مرتبطة بحصول الشروط وانتفاء الموانع، ومثل هذا الإحراق في النار شرطه الاتصال، فمثلاً: النار ما لم يلامسها الشيء لا تحرقه، وإذا كانت النار هناك وأنت هنا لا تحرقك قطعاً؛ لأن الشرط قد انتفى، وكذلك مقيد بعدم حصول الموانع، إذا كانت المادة نفسها غير قابلة للاحتراق فوضعت على النار فإنها لا تحترق، أو عزلت بعازل حراري فلا تحترق.
- النوع الثالث: الفاعل للعلة، وهو الذي لا يتوقف فعله على الشروط ولا على انتفاء الموانع ولا على الاختيار، وإنما يرتبط فعله بفعل آخر كحركة الخاتم لحركة الأصبع، والخاتم في الأصبع كلما تحرك الأصبع لابد أن يتحرك الخاتم عقلاً، ولا يمكن أن يتصور العقل أن الأصبع يتحرك ولا يتحرك الخاتم، لكن الخاتم ما له اختيار الحركة، ولا تتوقف حركته هنا على شرط ولا على انتفاء مانع؛ لأنها تابعة لغيرها بالكلية.
فالاستدلال لوجود الله سبحانه وتعالى سابق على الاستدلال بغير ذلك من صفاته وعلى الاستدلال للنبوة، وعلى الاستدلال لصدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك سابق على الاستدلال على جزئيات ما جاء به من الشرع كالطهارة والصلاة والصيام وكترك المحرمات وغير ذلك، فكل هذه الأمور متدرجة.