[أثر الخشوع في طلب الجنة والشهادة في سبيل الله]
فإذا كان الحال كذلك فينبغي لنا بعد كل عبادة أن نتأثر بأثرها، فيتضح ذلك في أخلاقنا وتصرفاتنا وكلامنا، وينبغي أن نكون أهل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتنزه عن هذه الدنيا وعن أعراضها كلها، وعلينا أن نتطهر من كل ذلك، فينبغي أن ترف قلوبنا إلى الجنات العلى، وأن نتأهب للفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، وحينئذ يضحي الإنسان، وتستعد نفسه للتضحية والبذل في سبيل الله بما يستطيع.
ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا سمعوا شيئاً من الوعد أو الوعيد رفت له قلوبهم، ففي حديث أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال: حضرت أبي وقد حضر الصف، أي: التقى الصفان في حال المعركة فقام أبو موسى -وهو أبو أبي بردة -فقام خطيباً فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، لم يكن بينه وبين الجنة إلا أن يموت)، فقال له رجل: يا أبا موسى! آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فتقدم الرجل فقاتل حتى قتل.
فهكذا كان يؤثر فيهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوه؛ لأنهم صدقوا الله سبحانه وتعالى فأثر فيهم هذا الكلام تأثيراً بليغاً.
فهذا عامر بن فهيرة لما أحس بوقع السيف نضح الدم على وجهه وقال: (فزت ورب الكعبة!).
وكذلك فعل حرام بن ملحان رضي الله عنه؛ فإنه لما ضرب بالسيف حمد الله سبحانه وتعالى على أنه قتل في سبيل الله، وهذا الحال نجده عندما سأل ابن رواحة رضي الله عنه الله سبحانه وتعالى المغفرة والشهادة في سبيله عند توديع المسلمين له في غزوة مؤتة والناس يسألون لهم العودة بأمان، وهو يقول: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا فذكر أنه يريد الشهادة في سبيل الله، وألا يرجع أبداً بعد ذلك، فقد فهموا هذه النصوص وتأثروا بها، ولذلك فإن ابن رواحة عندما نزل للبراز في وقت المعركة قال: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها علي إن لاقيتها ضرابها فترجل وقاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر.
وكذلك عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه في يوم أحد؛ عندما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الجيش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: (أي أصحابي! لا تخونوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف؛ وقد رأيتم العدو مقبلاً، فقالوا: لو كنا نعلم قتالاً لاتبعناكم، فقال: لعنكم الله، وأغنى عنكم المسلمين).
فرجع فانتزع بردة كانت عليه فوضعها أمامه، وقاتل حتى قتل، وتمنى أن يعود إلى الدنيا حتى يقاتل فيقتل، ثم يقاتل فيقتل.
وقد تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلاف سرية تخرج في سبيل الله، ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل).
فالشهيد لا يتمنى شيئاً من الدنيا إلا الرجوع إليها ليقتل مرة أخرى في سبيل الله لما رأى من أجر الشهادة وفضلها، فإنه يغفر للشهيد عند أول قطرة تقطر من دمه، ويزوج بسبعين من الحور العين، فلذلك لما صدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام كانت لهم التضحيات العظيمة، وكان لهذا التصديق والخشوع الأثر البالغ في نشر الإسلام والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، ولما تراجع الخشوع في الناس قل فيهم العمل بمقتضى ما يقرءون، فالناس الآن يصدقون هذا الكلام ويعلمون أنه الحق، لكنهم لا يعملون به كما عمل به أولئك، فلا يضحون في سبيل الله كما ضحى أولئك السابقون الأولون.
ولهذا فقد تراجع مد الإسلام، وأصاب كثيراً من المسلمين الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت وانشغلوا بأمور دنياهم عن أمور هذا الدين، فأصبح كثير من الناس يؤثر السلامة العاجلة على أمور الدين، ولا يرضى أن يتمعر وجهه يوماً واحداً في ذات الله سبحانه وتعالى، فكل ذلك من نقص الخشوع لله سبحانه وتعالى وإحسان التعامل معه جل وعلا.
إن علينا -عباد الله- أن نحيي قلوبنا بالخشوع لله سبحانه وتعالى في أعمالنا كلها، وأن نتذكر أن هذا الخشوع هو روحها، وأنها إذا خلت منه كانت جثة ينبغي أن ترمى في القمامة، فلا يستطيع أحد أن يحمل جيفة قد أنتنت، وهذه الأعمال إذا خلت من الخشوع والخضوع كانت جيفة منتنة لا خير فيها؛ فلابد أن نستحضر هذا في أمورنا كلها.