للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نماذج ممن تربى على يد الصحابة والتابعين]

ومثل ذلك القادة الذين برزوا فقادوا هذه الأمة في أحلك الظروف، في حروبها ومشكلاتها، إنما كانت قياداتهم من آثار تربيتهم، فهذا الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوزن بألف رجل، عندما أرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستنجده بثلاثة آلاف مقاتل، فأرسل إليه عمر ثلاثة رجال فقط، هم: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت، فكتب إليه: لقد أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت العدو فاجعلهم صفاً بين العدو وبين المسلمين، فكان عمرو بن العاص يجعل هؤلاء في الواجهة أمام المسلمين، فلا يرجعون على أدبارهم حتى يهزم العدو.

يحدثنا الزبير عن تربية أمه له، فيقول: كانت صفية بنت عبد المطلب تضربني في صباي ضرباً شديداً، فكان عمي ينكر ذلك عليها، ويزعم أنها تبغضني، فكانت تقول: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب جاءها رجل ذات يوم فقال لها: أين الزبير؟ فقالت: ما حاجتك إليه، قال: أريد أن أقتله، فقالت: هو في النخل، فاذهب إليه! فذهب الرجل إلى الزبير فاعتركا، فأخذه الزبير فكتفه بحبل وجعله على كتفه وجاء به يحمله، فرماه بين يدي أمه صفية، فضربت رأسه بمغزل، وقالت له: كيف وجدت زبراً، أعسلاً وتمراً، أم أسداً هزبراً؟! وكذلك فإن تربية النبي صلى الله عليه وسلم له، وتهيئته للقيام بمعارك الإسلام الفاصلة كان لها الأثر البارز في شجاعة الرجل وإقدامه، فقد قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من المعارك أمام العدو، ولذلك يقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر ما دام يبذل ومثل هذا تربية أسماء بنت أبي بكر لولدها عبد الله بن الزبير، الذي جاءت به حين ولد إلى بيت أختها عائشة، فوضعته في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، ثم تربى تربية أبي بكر والزبير بن العوام، حتى إنه كان في خطابته يشبه بـ أبي بكر، وفي فروسيته يشبه بـ الزبير! عندما خرج مع عبد الله بن أبي سرح في الجيش الذي وجهه عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع إلى أفريقيا، خرجوا في ثلاثة آلاف فدخلوا أرض برقة وهي أرض ليبيا، فاستقبلهم جيش البربر في مائة وعشرين ألف مقاتل، وعليهم ملك أفريقيا وهو جرجير، وكان بين قينتين تغنيان وهو يركب بينهما في مركب، فلما رأى ابن أبي سرح الجيش وكثرته دخل قبة له، فقال: لا يدخل عليَّ أحد حتى أفكر في خدعة، فاقتحم عليه ابن الزبير فرعب منه، فقال: إنه ظهرت لي خدعة، فقال: وما هي؟ قال: أن تعطيني مائة مقاتل يحمون ظهري، فأخرج كأني رسول إلى الملك فأطير رأسه، وحينئذ سينهزمون، فأذن له ابن أبي سرح بذلك، فخرج، فاختار مائة فارس وخرج يشق صفوف العدو، وهم لا يظنون إلا أنه يحمل رسالة إلى الملك، حتى وصل إليه فأطار رأسه من بين القينتين، ودارت المعركة، وانقض المسلمون عليهم، وقتلوهم قتلاً.

ثم إن ابن أبي سرح وجه عبد الله بن الزبير بالبشارة إلى عثمان بن عفان، فأتاه بداره فأخبره بتفاصيل المعركة، وقد كان عثمان في العادة إذا أتاه بشير عن معركة من المعارك، وقفه على المنبر فشرح للناس تفاصيل ما حصل، كما كان يفعل عمر من قبله، لكنه في هذه المرة آثر أن يتقدم ابن الزبير فيقف على المنبر، فيقص على الناس تفاصيل المعركة، وما ذلك إلا لشدة تأثر عثمان بما سمع من قص ابن الزبير وما دار في المعركة، فهو قص إنسان مباشر، دخل المعركة وأفاد فيها، وأبلى البلاء الحسن.

فلما وقف ابن الزبير على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، وسمع ذلك المسلمون بكوا بكاءً شديداً، حين تذكروا خطبة أبي بكر، فقالوا: ما هو إلا أبو بكر.

وكذلك الذين كانوا بعد هؤلاء من التابعين تربوا على تربيتهم، فلذلك كانت لهم الآثار البارزة في نصرة الله ورسوله، وتحمل أعباء هذه الأمة، فهذا قتيبة بن مسلم الباهلي، وكان شاباً من شباب المسلمين خرج بالجيوش إلى خراسان، فافتتح في غزوة واحدة اثنتين وسبعين مدينة، وكان من أشهر المسلمين في الفتوحات، حتى إنه لم تهزم له راية قط في معاركه كلها، وكان شاباً حديث السن، لكنه كان ذكياً مؤمناً محباً للجهاد في سبيل الله، حاصر حصناً من الحصون فترة فلم يفتح عليه، فقال للمسلمين: لعلكم قصرتم في سنة من سنن الدين؛ حبس الله عنكم الفتح لأجلها، فنظروا فإذا هم قد تأخروا عن السواك، فقد كانوا في أرض ليس بها من الشجر ما يستاكون به، فأمر بعض القوم فأتاهم بالمساويك، فلما صفوا في أوجه العدو جعلوا يستاكون، فظن العدو أنهم يشحذون أسنانهم ليأكلوهم ففتحوا لهم الحصن.