[طرق المعرفة]
بماذا يستدل لوجود فعال؟ طرق المعرفة ثلاثة هي: - العيان وهو: المشاهدة.
- أو المثال وهو: النظير، أي: أن تقيسه على نظيره.
- والآثار، وهذا القسم الثالث.
والله سبحانه وتعالى يستحيل أن تعرفه في هذه الدنيا عن طريق العيان لقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٠٣].
ويستحيل في حقه كذلك المثال؛ لأنه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فلا يمكن أن يقاس على أي شيء، وكل ما سواه فهو مغاير له مخالف له، فلم يبق إلا معرفته بفعله وآثاره.
يقول أحد العلماء وهو محمد الفالو المتالي رحمه الله: وطرق المعرفة الكبار عيان او مثال او آثار فأول منعه الجبار إذ قال لا تدركه الأبصار والثاني أيضاً منعه بالنقل لأنه ليس له من مثل لم يبق بعد ذا سوى آثار قدرته في العالم السيار ترى آثار قدرته في هذا العالم المتحرك كله، وهذا دليل على وجوده.
قوله: (ليحصل اليقين له)، هذا هو المقصد وهو الهدف وهو أصل كل شيء، فإذا حصل اليقين بقذف قذفه الله في قلب العبد لم يحتج بعد هذا إلى النظر في الدلائل، لكن قبل أن يحصل له اليقين لابد أن يبحث في الدلائل، وهذا اليقين منحة ربانية ثمينة يهبها الله تعالى لمن يشاء، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:١٣]، وهذه الآية تضمنت نوعين من أنواع الناس: النوع الأول: الذين يجتبيهم الله تعالى ويختارهم فيقذف في قلوبهم اليقين والهداية ولا يستطيعون الممانعة، وتنقاد نفوسهم لذلك طائعة مطمئنة.
والنوع الثاني: الذين يجاهدون ويكابدون ويستمرون في العمل ثم يتقبل الله منهم ويهديهم، ولهذا قال: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى:١٣]، هؤلاء لا تتوقف هدايتهم إلا على مشيئة الله: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:١٣]، من أناب وتاب وعمل الصالحات يهديه الله تعالى، فهذان صنفان من أصناف عباده.
وقسمة ذلك تابعة لقدره سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتدخل فيها الناس، ولا يمكن أن يعترض عليه أحد من خلقه بأي شيء؛ لأنه فعال لما يريد: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨]، فلا يقال (لم؟) في حق الله سبحانه وتعالى، فالسؤال في مثل هذا مرفوع عنه، ولذلك فقد يخرج من البطن الواحد مسلم وكافر.
بل قد يكون الأخوان الشقيقان أحدهما هو أول من يأخذ كتابه بيمينه والآخر هو أول من يأخذ كتابه بشماله، فـ أبو سلمة بن عبد الأسد وأخوه الأسود بن عبد الأسد شقيقان، الأسود قتل يوم بدر كافراً، وروي أنه أول من يأخذ كتابه بشماله، وأبو سلمة أسلم قديماً بمكة وأوذي في الله وهاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة ومات في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أنه أول من يأخذ كتابه بيمينه وهما أخوان شقيقان، فلله الحكمة يفعل ما يشاء ويختار.
والمقصود من قوله: (بفعله)، أي: بأفعاله كلها، وهذا من إضافة المفرد إلى الضمير وإضافة المفرد إلى الضمير تقتضي عمومه كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:٥٠]، فالمقصود هنا العموم لا خال واحد، ولا عم واحد، وكذلك قول الشاعر: بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب فلا يقصد جلداً واحداً؛ لأن الحيوانات الحسراء، أي: التي ماتت من الجوع والجهد والضنك، لا يمكن أن يكون لها جلد واحد، بل كل بهيمة لها جلد مستقل (فأما عظامها فبيض وأما جلدها -أي: جلودها- فصليب)، الصليب هنا فعيل يوصف به المفرد والجمع والمثنى وغير ذلك، ومنه: خبير بنو لهب فلا تك ملغياً مقالة لهبي إذا الطير مرت وأيضاً: يعادين من قد بدا شيبه وهن صديق لمن لم يشب وكذلك قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤]، ففعيل يوصف به المفرد والمثنى والجمع.