[الفرق بين القدر والشرع]
القدر سر الله المكتوب، وهو يختلف عن الشرع، فالشرع به التكليف، والقدر لا تكليف به، فالإنسان مأمور اليوم بأن يصوم رمضان القادم، لكنه قد يكون في علم الله أنه لا يبلغه ويموت قبله، فهو في التشريع متعبد بأن يعزم على صوم رمضان، وفي القدر لا يمكن أن يصومه ولا أن يبلغه، فيا رب صائمه لن يصومه ويا رب قائمه لن يقومه.
فهنا الفرق بين القدر والشرع، وهو الذي خفي على إبليس، فاستدل بالقدر وترك الشرع، فحلت عليه اللعنة بسبب ذلك، ونجد كثيراً من الناس يستدل بالقدر ويترك الشرع، وهؤلاء هم الزنادقة مثلما حكى الله تعالى عنهم في كتابه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:٤٧] , فهذا هو الاستدلال بالقدر في مقابل الشرع، فهم مأمورون شرعاً بأن ينفقوا على الفقراء، وهم يستدلون بالقدر ويقولون: لو أراد الله إغناءهم لأغناهم وأعطاهم مثلما أعطانا.
وهذه الشبهة ردها الله عليهم فقال: أنتم مكلفون بشرعي لا بقدري، فأنا أحكم ما أشاء، وأكتب ما أشاء، فمن هنا أنتم مأمورون باتباع ما آمر به شرعاً ومحجوبون عما أفعله قدراً، ولو شئت لسخرتكم لهم ولأخذت ما في أيديكم وأعطيته لهم.
فهذا الفرق بين القدر والشرع هو الذي خفي على كثير من الناس.
ومن قدر الله تعالى أن جميع أفعال العباد وتصرفاته كلها من خلق الله ومن فعل العبد، فالعبد فيها مسير بالقدر مخير بالشرع، فهو مخير بالخطاب الشرعي إن شاء فعله وإن شاء ترك، إن شاء صام وإن شاء أفطر، إن شاء صلى وإن شاء ترك الصلاة، هذا في الشرع، لكن في القدر مجزوم بما سيفعله، ففي التكليف يقال له: افعل.
لكنه غير مجبر، فإن شاء صلى وإن شاء لم يفعل، وفي القدر لا يمكن أن يخالف ما كتب الله له.
ولذلك فإن هذه المسألة -وهي مسألة التخيير والتسيير- يغلط فيها كثير من الناس، فيظنون إشكالاً بين التخيير والتسيير أو تعارضاً بينهما، والواقع أن الإنسان مخير في الخطاب الشرعي، بمعنى أنه غير مجبر على فعل الواجبات وعلى ترك المحرمات، فهو مأمور بذلك لكنه غير مجبر عليه، فلم يوضع سيف على رأسه ولا رشاش بين كتفيه فيقال له: افعل -مثلاً- أو اترك.
لكنه في القدر مجبراً إجباراً كاملاً، وهذا الإجبار الفرق بينه وبين الجبر الدنيوي أن جبر المخلوق يكون بمخالفة هوى الإنسان، وجبر الله عز وجل يكون بموافقة هوى الإنسان، فالإنسان مجبر بالاختيار، فيفعل الفعل وهو يريده ويهواه ويحبه وفيه مهلكته، يسافر في طائرة فيشتري التذكرة بثمن باهظ، ويسعى من أجل الحجز ويتعب في الحصول عليه وهو سيموت في تلك الطائرة، وستدمر به وستسقط في المحيط -مثلاً- وتتحطم، فلهذا حجب القدر عن الناس وأمروا بالشرع.
والذين يستدلون بالقدر فيما يتعلق بالجهاد والدعوة هم من قبيل هؤلاء الذين اتبعوا إبليس وتركوا ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يقولون: دعوا العمل، واتركوا الدعوة، واتركوا الجهاد؛ فإن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)! ويجاب عن هؤلاء بأن هذا من قدر الله، ونحن مأمورون بالشرع لا بالقدر، فأنت مأمور أن تصلي لكن لا تدري هل صلاتك مقبولة أو غير مقبولة، فلا يمكن أن تقول: لا أصلي حتى أعلم هل صلاتي هنا مقبولة أو غير مقبولة.
فالقبول من القدر، وأداء الصلاة من الشرع، وأنت مخاطب بالشرع لا بالقدر.