فلهذا لا تمس القبور لقصد التبرك بتربتها أو لقصد التقرب إلى أصحابها؛ لأن ذلك من جنس العبادة، وقد سبق أن العبادة لا بد أن تصرف كلها لله، وإن كان التبرك في نفسه ليس عبادة؛ ولهذا جاز التبرك برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان التبرك عبادة لما جاز بمخلوق.
والتبرك بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور الجائزة التي ينتفع بها في مجال الدنيا، ولكنه لا ينفع في مجال الآخرة، وهنا الفرق: فإن التبرك إنما ينفع في مجال الدنيا؛ لأن البركة معناها النماء الدنيوي، فيمكن أن يحصل عن طريق البركة شفاء مرض أو نحو ذلك، لكن لا يمكن أن تغفر به الذنوب، أو أن يدخل به الإنسان الجنة مثلاً، فهي نافعة في المجال الدنيوي فقط.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبركون به، فكانوا يتبركون بوضوئه وبريقه ومخاطه وبكل شيء مسه، حتى شربت بركة أم أيمن بول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرب عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما دمه صلى الله عليه وسلم فقال له:(ويل للناس منك، وويل لك من الناس)، معناه أنه سيكون شجاعاً، وسيكون بشربه للدم أيضاً محل عداوة؛ فسيعاديه الناس كما عادوا الأنبياء، فالأنبياء هم أشد الناس بلاءً، وقد حصل ذلك.
وقد كانوا يتبركون بكل شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن عروة بن مسعود حينما رجع إلى قريش من الحديبية وصف حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا معشر قريش! لقد وفدت على كسرى في ملكه، وعلى قيصر في ملكه، وعلى النجاشي في ملكه، فما رأيت أحداً منهم يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، فوالله ما امتخط إلا وقع مخاطه في يد أحدهم فدلك به وجهه ورأسه، ولا توضأ إلا كادوا يقتتلون على وضوئه، ولا تكلم إلا أنصتوا حتى كأن على رءوسهم الطير.
وكذلك فإن من التبرك به صلى الله عليه وسلم تبركهم بوضع يده في الماء كما حصل في عدة غزوات، فإنهم عطشوا في غزوة فلم يبق معهم إلا ماء قليل في ركوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوا إليه ذلك، فأمر بقدح، وأمر أن يصب الماء فيه، وجعل يده فيه، فجعل الماء يفور من بين أصابعه، والناس يستقون حتى ملئوا ما معهم من الآنية والظروف، فشربوا، وسقوا نواضحهم ودوابهم، وهذا الماء هو أفضل ماء على وجه الأرض إذ ذاك؛ لأن خير المياه الماء الذي نبع من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول أحد الفقهاء: وأفضل المياه ماء قد نبعْ بين أصابع النبي المتبعْ يليه زمزم فماء الكوثرِ فنيل مصر ثم باقي الأنهُرِ