للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صلة الأرحام مما تتوارثه بعض الأسر]

والبر من الأمور التي تتوارث في الأسر، فإذا كان الإنسان براً بوالديه فسيبره أولاده، ويستمر ذلك البر متوارثاً في السلالات، ونسأل الله السلامة والعافية، ففي المقابل إذا كان الإنسان عاقاً لوالديه فسيعقه أولاده، وقد جرب ذلك وحصل.

روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى شاباً ملوي اليد، قد يبست على الالتواء، فسأله فقال: ما ليدك هذه؟ قال: دعوة أبي، فقال: ماذا قال؟ فأنشده أبياتاً لوالده يقول فيها: وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه فتحققت فيه دعوة أبيه، ويبست يده ملوية، وكذلك فإن بعض السلالات اشتهرت بالبر، ومن ذلك البيت النبوي الشريف، فإن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اشتهر فيهم بر الوالدين واستمر ذلك فيهم، وكان من صفاتهم التي يعرفون بها، فقد كان كثير منهم يتخفى في أيام الفتن؛ لكثرة متابعات الناس لهم ومقاتلتهم لهم، لكن كان الناس يعرفونهم بالبر والازدياد فيه والمبالغة فيه.

وقد ذكر ذلك عدد من الذين ذكروا صفات أهل البيت من المؤلفين، فقد اشتهر ذلك فيهم، حتى إن بعضهم كان يصرح به، فقد صح عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون بالبر وصلة الرحم، فهي من صفاتهم المشهورة المعروفة، ولا غرابة في ذلك، فهم أهل بيت ليس عهدهم في ذلك بقديم، فهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي وصفه بها كل من عرفه.

ولذلك فإنها -أي: صلة الرحم- من أوائل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه ويأمر به، فقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب أنه كان في قوم من قريش، وكانوا تجاراً في الشام، في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وكفار قريش، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فسلمه إلى صاحب بصرى ليسلمه إلى هرقل، فلما أتاه كتابه سأل: هل بالشام أحد من قريش؟ فدل على أولئك الركب، فأتي بهم، فجمع وجوه الروم في قصر له، وأمر بأبوابها فأغلقت، ثم سألهم فقال: أيكم ألصق نسباً بهذا الرجل؟ قال: أبو سفيان فقلت: أنا ألصقهم نسباً به، فقال: أدنوه عندي واجعلوا أصحابه وراء ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إذا كذب فكذبوه، قال: فسألني اثني عشر سؤالاً عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما سأله عنه أن قال: فبم يأمركم؟ قال يأمرنا بالصدق والبر والصلة، وأن نعبد الله وحده ونترك ما يقول آباؤنا.

فمن أول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه الصلة، فهي إذاً كانت قديمة في دعوته صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يعرفون دعوته بأنها دعوة صلة.