[وجوب الإيمان بالبعث وذكر بعض أدلته]
ومما يجب الإيمان به البعث بعد الموت، وقد جاء فيه سبعمائة وسبع وستون آية من القرآن، وذكر الله سبحانه وتعالى كثيراً من أدلته العجيبة في كتابه، ومنها ما في خواتيم سورة يس، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:٧٧]، فهذا إخراج الشيء من ضده، فهذا الإنسان القوي المتماسك، خلق من هذه النطفة التي هي أمشاج مستقذرة: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:٧٧].
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨]، هذا البعث بعد الموت: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:٧٩]، هذا الدليل الثاني، وهو الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، كما جاء أيضاً في سورة الواقعة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩]، هذا الاستدلال بعلم الله تعالى الذي لا يفوته شيء، فهو قادر على إعادة الذرات، وما هو أقل منها على هيئاتها {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩].
ثم استدل بتمام قدرته، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:٨٠]، وهذا خلق الشيء من ضده تماماً: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:٨٠].
وقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [يس:٨١] في هذه الآية الاستدلال بالخلق الأكبر على الخلق الأصغر: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:٨١]، (بلى) هذا قسم أيضاً، وهو نوع آخر من أدلة البعث، يقسم الله عليه؛ لقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:٥٣]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:١] معناه: لتبعثن.
وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:٨١]؛ كذلك إثبات صفات التأثير لله سبحانه وتعالى، دليل من أدلة البعث بعد الموت؛ لأنه أخبر عن ذلك، وهو قادر عليه متى شاء فعله.
وقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، فيها أن من تمام قدرته أنه يفعل ما يشاء، ولا يصيبه لغوب ولا تعب، ولا تأخذه سنة ولا نوم، بل (إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون) ولا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:٨٢ - ٨٣]، ختم هذه الآيات بالبعث لقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:٨٣].
وهذا البعث بعد الموت للبشر قطعاً، وللجن أيضاً؛ لأن الله أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرائع فهم مجزيون عليها لا محالة، والبعث كذلك للبهائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وقت الجزاء الأخروي: (حتى يقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء)، ولكن اختلف في البهائم بعد ذلك ما مصيرها، فقيل: تعود كما كانت تراباً، والأرض كلها تكون خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته نزلاً لأهل الجنة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه حدثهم بذلك، فدخل عليه حبر من اليهود فقال: (بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، أما علمت أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته، نزلاً لأهل الجنة، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتسم)، عجب من تصديق الحبر له، هذا حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، فقال: (أتدرون ما إدامها؟ إدامها بالام ونون، فقيل: ما هذا؟ فقال: ثور وسمك -أي: ثور وحوت- يشبع من زيادة كبده سبعون ألفاً)، زيادة الكبد فقط يشبع منها سبعون ألفاً، وهذا تفسير: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:١٢٨]، وفي تفسير آخر: أن ذلك في الدنيا، حيث يجعل الله العاقبة للمتقين، ويمكن لهم في الأرض دائماً، ويهلك عدوه.
كذلك مما يجب الإيمان به الصراط، الذي هو الجسر الذي ينصب على متن جهنم: والرب لا يعجزه إمشاؤهم عليه إذ لم يعيه إنشاؤهم أي: فكما أنشأهم لا يعجزه إمشاؤهم على الصراط، وقد ذكرنا تفاوت مرور الناس وعبورهم عليه.