[نماذج لأهل التربية والهمم العالية]
وكذلك الذين برزوا في العلم وحمل هذه الرسالة والأمانة العظيمة، إنما كان ذلك أثراً من آثار تربيتهم، فهذا سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى يقول: دعتني أمي، وكانت ذات همة وحرص على العلم، فقالت: يا بني! إن لدي همة لجمع العلم، وإني امرأة لا أستطيع أن أغشى مجالس الرجال، ولكني سأكفيك أمر الدنيا بمغزلي، وتكفيني أنت أمر العلم، فكانت تلك المرأة ذات مغزل فتبيع ما غزلته من الصوف، وتنفق به على ولدها، وتغدق عليه الأموال التي يتزود به لأسفاره، ويجمع بها الكتب، ويستطيع بها التفرغ لطلب العلم، فاشتركا في الأجر: فالمرأة تغزل الصوف وتبيعه، والرجل تفرغ لطلب العلم حتى أصبح إماماً من أئمة المسلمين.
وكذلك مالك بن أنس رحمه الله يقول: دعتني أمي، وكنت أشتغل بضرب العود، أي بتعلم الغناء في ذلك الوقت وهو صغير، فقالت: يا بني! إنها حرفة لا تصلح لك، فعممتني بعمامة، وكستني ثوباً أبيض، وأعطتني صرة من الدراهم، وقالت: اذهب إلى المسجد فلا ترجع إليَّ حتى تكون رأس الحلقة، وكذلك ربيعة بن فروخ وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، الذي اشتهر بـ ربيعة الرأي، ما رباه إلا أمه، فإن أباه خرج في الغزوة فمكث أربعاً وعشرين سنة في غزوة من الغزوات، وقد ترك ولده حملاً، فلما رجع وقفل من غزوته جاء إلى بيته فاستقبله رجل، فدخلا في عراك حتى عرف أنه ولده الذي تركه حملاً، وإذا هو عالم المدينة إذ ذاك دون مدافع، فسأل امرأته عن المال الذي تركه عندها، قالت: أنفقته على ولدك حتى أصبح عالم المدينة.
وكذلك غير هؤلاء من الذين برزوا في هذا المجال، كان للتربية الأثر البالغ فيهم، سواء كانت تلك التربية من تربية الأمهات أو من عناية الآباء أو من تربية المربين الآخرين، فهذا أبو يوسف القاضي كان ذكياً جداً، وكان أبوه يحرص على تعليمه بعض المهن الدنيوية، يريد أن ينال من ورائه كسبا ًمادياً، فكان يمر على حلقة أبي حنيفة فيسمعه يناظر في الفقه فتعجبه المناظرة، فيجلس إليه، فرآه أبو حنيفة فأعجب به، فامتحنه، فأعجب بذكائه، فقال: اجلس إليّ حتى تحمل عني بعض هذا العلم الذي لديَّ فقال: إن أبي يمنعني ذلك، فقال: وما حاجة أبيك إليك، قال: يريد مالاً، فقال أبو حنيفة: أنا أكفيك ذلك، فكان أبو حنيفة يعطيه مالاً يقدمه لأبيه كل شهر، ويجلسه هو في مجلسه يتعلم، حتى أصبح الناس يقولون: أبو يوسف وأبو حنيفة، فهو صورة طبق الأصل من أبي حنيفة.
وكذلك فإن أبا جمرة رحمه الله وهو من كبار التابعين، قال: جلست إلى ابن عباس فكنت أترجم بينه وبين الناس فقال: اجلس عندي شهراً؛ حتى أعطيك قسطاً من مالي، فتقاسم ابن عباس ماله مع أبي جمرة حين أعجب بعلمه، يريد منه أن يتفرغ للحديث وحمل العلم، وكذلك يذكر عن مالك أنه قاسم الشافعي ماله تشجيعاً له على طلب العلم، وكذلك كان محمد بن شهاب الزهري إذا رأى من يعجبه ذكاءه من الطلبة أنفق عليه الآلاف من الدنانير؛ لكي لا تشغله الدنيا والتفكر فيها عن طلب العلم، فكان يفرغ طلاب العلم، فيحتمل الديون في ذلك.
ومثل هذا ما كان عليه عبد الله بن المبارك العالم المجاهد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان من أشد هذه الأمة قياماً بالحق، فكان إذا رأى من يعجبه ذكاءه أنفق عليه؛ ليقوم لهذه الأمة مقاماً تحتاج إليه، وكان إذا خرج بالحج يأخذ أزواد طلاب العلم فيقول: كل من معه شيء من المال فليأت به، فيأتون بأموالهم، فيتركها عبد الله في مروة، وينفق عليهم من ماله الخالص طيلة الحج، حتى إذا رجع إلى مروة سلم إلى كل واحد منهم ماله الذي أخذ منه، وهم يظنون أنهم يأكلون من أموالهم وأزوادهم، وهم إنما يأكلون من مال عبد الله وزاده؛ ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: إذا غاب عبد الله عن مرو ليلة فقد غاب عنها نورها وجمالها وقد كتب رحمه الله إلى الفضيل بن عياض -وكان عبد الله إذ ذاك في الغزو إلى أرض فارس، فلقي ركباً يذهبون إلى الحجاز- رسالة يقول فيها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب فلما بلغت هذه الأبيات الفضيل بن عياض بكى بكاءً شديداً حين علم أن الجهاد أفضل مما هو فيه، وأن ابن المبارك والزمرة الذين معه من طلاب العلم هم في نحور العدو وفي الجهاد في سبيل الله في الثغور، فقال للرسول الذي أتاه يحمل هذه الرسالة: لأحدثنك بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالحديث الذي فيه: (لا يجتمع غباران في أنف امرئ مسلم: غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم).
وهكذا الذين أتوا بعد هؤلاء قد اعتنوا عناية بالغة بتربية أولادهم وطلابهم؛ ليكونوا أهلاً لتحمل المسئولية، يحدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله أنه كف بصره وهو صغير في الرابعة من عمره، فقالت له أمه: إن من كان أعمى لا يزينه عند الناس إلا العلم، فاشتغل بحفظ السنة، فإن ذلك يعوض لك ما فقدت من البصر، قال: فاشتغلت بحفظ السنة، واعتكفت ذات ليلة في المسجد وأنا أطلب السنة، فسألت الله أن يرد عليّ بصري، فرده علي، ومع ذلك استمر على الاشتغال بحفظ السنة، وكانت أمه تنفق عليه وتفرغه لطلب الحديث، فإذا أراد الرحلة إلى أي مدينة من أنحاء العالم زودته أمه بأحسن زاد، واختارت له أحسن مركب، وما ذلك إلا من عمل يدها، ولهذا لم تبق حاضرة من حواضر العلم في الأرض إلا دخلها البخاري، وروى ما فيها، حتى بلغت مروياته سبعمائة ألف حديث.
وكذلك حال أبي محمد الجويني رحمه الله، فإنه أراد أن يولد له ولد يربيه على منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من علماء هذه الأمة، فاكتسب من الحلال حتى أحرز أربعمائة درهم، فأرسل بها إلى رسول أمين إلى أرض الثغر فاشترى له جارية من أرض الثغر، لم تتداولها الأملاك بعد، فأتاه بها، فحرص على تغذيتها من الحلال، ورباها وعلمها ثم أعتقها وتزوجها، وحرص على منعها من مخالطة الناس، وكان يوقظها لقيام الليل معه ويلزمها بصيام النفل معه، ويعودها على الطاعات والعبادات، حتى أتت بولدها وهو أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد الجويني، فلما ولد منعها من مخالطة الناس، وكان يسعى في الكسب من الحلال للنفقة على زوجه وولده، وكان يأمرها بإرضاعه إذا أكلت من حلال، وبينما هو يصلي ذات يوم، إذ دخلت البيت امرأة فخفف من صلاته وأقبل مسرعاً، فإذا المرأة ترضع ولده، فغضب غضباً شديداً، فيقول عبد الملك: فأخذ برجلي وحملني وعصرني حتى أخرج من بطني كل شيء كان فيه، قال: فكانت بعد ذلك تأخذني كبوة عند المناظرة ما أراها إلا من تلك المصة! وكذلك يحدثنا الشيخ أحمد زروق رحمه الله في تربية جدته له، يقول: إنه توفيت أمه عند مولده قبل أن يسمى، وتوفي أبوه بعد ذلك بشهر فربته جدته من الأم، فاعتنت بتربيته عناية عظيمة، وقد قص هذه العناية فذكر من أعاجيبها أنها كانت إذا جاعوا تركته حتى ينام، ثم تخرج فتكتسب فتشتري غذاء من التمر والخبز، فتجعله تحت طرف الفراش، فإذا استيقظ جائعاً تقول له: ما لنا إلا أن نسأل ربنا، فتعال بنا نسأل ربنا أن يرزقنا، فيمد يديه ويضرع إلى الله ويبكي وتبكي معه، ثم تقول: إن ربنا قد أعطانا هذا فتكشف الفراش عما تحته من التمر والخبز، وكذلك إذا احتاج إلى اللباس تتركه، حتى إذا انصرف في طلب العلم أو نحو ذلك، فتكتسب هي حتى تشتري له ملابس، ثم تضعه تحت طرف الفراش وتسترها في البيت، ثم تأمر الصبي بالضراعة إلى الله لعل الله يرزقه لباساً، وتعوده على هذا، حتى يقول هو عن نفسه: ما تعلمت اللجأ إلى الله إلا من جدتي تلك، فكان يلجأ إلى الله في شأنه كله.
واللجأ إلى الله مهارة تربوية عظيمة، فإن كثيراً من الناس إذا نابتهم نائبة لجئوا إلى الناس، ولم يلجئوا إلى الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يلجأ إليه، ويسأل وتلتمس منه الحوائج هو وحده الغني الحميد، يقول المكودي رحمه الله: إذا عرضت لي في زمان حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد الذي يقول حارسه: سيدي اليوم راقد هذا لا تلتمس منه الحوائج، فلذلك يقول: إنه إذا التجأ إلى الله بأي شيء يسره له، وكذلك يقول السهيلي رحمه الله: بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرع يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأي باب أقرع ومن الذي أدعوه وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لمجدك أن تقنط داعياً الفضل أجزل والمواهب أوسع يقول أحد علماء الشام: كنت معتكفاً في بيت المقدس في رمضان، والمسجد يموج بالمعتكفين، فنام الناس غفوة من وسط الليل، فقام إبراهيم بن أدهم يتضرع إلى الله فيقول: إلهي عبدك العاصي أتاك مقر بالذنوب وقد دعاك فإن تغفر فأنت لذاك أهل وإن تأخذ فمن نرجو سواك فلم يبق أحد في المسجد إلا ردد معه هذه الأبيات من شدة تأثيرها وتعلقها بالله سبحانه وتعالى وحده، وأثر ذلك بالغ فهذا أحد المشايخ رحمه الله أخذه النصارى الفرنسيون فجعلوه في زورق حربي كان يسمى (بني)، فنقلوه يريدون تغريبه، وإخراجه من بلاده؛ بسب