[تميز معجزة النبي صلى الله عليه وسلم على معجزات الأنبياء]
ثم قال: [وكلهم أوتي إذ جا بالبشر ما مثله عليه آمن البشر] وهو هنا ينظم الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح: (ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
قال: [وكلهم أوتي إذ جا بالبشر ما مثله عليه آمن البشر وإنما كان الذي الأواه أوتيه وحياً إليه الله أوحاه فهو أكثر الجماعه متبعا يوم تقوم الساعه كما رجا.
] أي: كما رجا صلى الله عليه وسلم، وهذا كله نظم لهذا الحديث، فقوله: (وكلهم أوتي إذ جا بالبشر)، أي: كل الرسل آتاه الله حين جاء (بالبشر) أي: مبشرات، والمقصود بذلك دعوته التي تشمل المبشرات والمنذرات، فكل الرسل بشير ونذير.
والبشر جمع بشرى، والمقصود بها تبشيرهم بالدين الذي أتوا به من عند الله.
(ما مثله عليه آمن البشر)، أي: أوتي من المعجزات ما لو رآه البشر لآمنوا به، فمعجزاتهم باهرة، فكل معجزة لو جمع لها البشر فرأوها لقامت عليهم الحجة، والدين الذين أتى به كل رسول منهم يصلح للوقت الذي هو فيه؛ ولهذا كانت معجزاتهم، مادية تقوم بها الحجة على عصر فقط، وهو العصر الذي رئيت فيه أو تواترت، ثم إذا انقطع التواتر زال الإعجاز منها، فمثلاً ناقة صالح، لا شك أن من رآها أو نقلت إليه تواتراً تقوم عليه الحجة بها؛ لكننا نحن اليوم لو لم ترد في القرآن لما صدقنا بها؛ لأننا ما رأيناها ولا نقلت إلينا أخبارها تواتراً.
لذلك فالمعجزات المادية إنما تكون مع الرسالات المؤقتة، وأما معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فنظراًَ لبقاء رسالته، كانت هذا القرآن الباقي الخالد، الذي تقوم به الحجة على الناس أجمعين؛ ولهذا قال: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، فمعجزته هذا الوحي، وإن كانت له معجزات كثيرة؛ لكن تلك المعجزات لا تقوم بها الحجة على كل الناس، والذي تقوم به الحجة على كل من بلغ هو هذا القرآن، وهو المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (ما مثله عليه آمن البشر)، أي: ما تقوم الحجة بمثله على الناس أجمعين، و (البشر): هذا الجنس الآدمي.
وإنما كان الذي الأواه أوتيه وحياً إليه الله أوحاه.
معناه: إنما كانت معجزته الكبرى التي آتاه الله وحياً أوحاه الله إليه، وهو هذا القرآن، والأواه معناه: كثير التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله به على إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:١١٤] منيب.
والمقصود: بالوحي الموحى؛ لأن المصدر يطلق على الحدث ويطلق على ما تعلق به الحدث، فالحدث هو ظاهرة الوحي نفسها، فهو نزول الوحي إليه، وهو القرآن الموحى، فالقرآن يسمى وحياً بمعنى موحى؛ لأنه أوحي إليه.
وقوله: فهو أكثر الجماعة متبعاً يوم تقوم الساعة أي: فبسبب كون معجزته هذا الوحي فهو أكثر جماعة الرسل عليهم الصلاة والسلام أتباعاً يوم تقوم الساعة.
قوله: (كما رجا)؛ هذا الذي ترجاه بقوله: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ذلك: (فإنه حين عرضت عليه الأمم، رأى النبي وحده، والنبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والثلاثة، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه القبيلة، ثم رأى سواداً قد ملأ الأفق قال: فأقول: هذه أمتي؟ فيقال: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فرأى أمته أضعاف ذلك)، وهذا التزايد علو في المنزلة؛ لأنه يزداد أجره بعدد أتباعه، فكل فرد من الأفراد آمن به، فإن كل عبادة يعبدها وكل ذكر يذكره يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجره على التتابع الذي لا ينقطع إلا بقيام الساعة.
ولذلك فإن أمته كانت مدتها أطول المدد.