[حقيقة الخلاف في دخول العلم في مسمى الإيمان وما ينبني عليها]
واختلف هل هذا الخلاف حقيقي أو صوري؟ على قولين لأهل العلم: القول الأول: أنه خلاف حقيقي؛ لأنه ينبني عليه مسائل عقدية، منها قضية الإرجاء، فمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنه لم يصل ولم يزك وباشر الفواحش فما مصيره؟ هل هو إلى جنة أو إلى نار؟ فمذهب جمهور أهل العلم أنه صائر إلى الجنة بإيمانه؛ لأن كل من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله فمصيره الجنة، سواءٌ عذب في القبر أو دخل النار، فإن مكث ملايين السنين في النار لا بد أن يخرج منها بإيمانه ويدخل الجنة، فالله تعالى يدخل النار من شاء بسبب معصيته، ويخرجه منها بإيمانه، لكن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله لا يخلد في النار أبداً، وهنا يعلم أن الأعمال مكملة لهذا الإيمان وزائدة في مفهومه، ومرسخة له.
كذلك من المسائل المبنية على هذا الخلاف مسألة زيادة الإيمان ونقصه، وقد اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال: القول الأول: الإيمان يزيد وينقص مطلقاً.
وهذا المذهب هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الذي عقد له البخاري كتاب الإيمان في صحيحه، فذكر أنه يزيد وينقص، واستدل لذلك بالآيات الواردة في زيادة الإيمان في القرآن، مثل قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:١٢٤] , وكذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:١٧] , وكذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠] , وكذلك قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:٤] , وغيرها من الآيات التي فيها التصريح بزيادة الإيمان، وزيادته تقتضي نقصه؛ لأن الشيء الذي يزيد معناه أنه يقبل النقص أيضاً.
القول الثاني: الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
وهذا القول يقول به طائفة من الفقهاء يسمون (مرجئة الفقهاء)، وهو مخالف لما عليه جمهور أهل السنة والجماعة من لدن التابعين إلى زماننا هذا، فهؤلاء يرون أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وإنما هو الجزم بالقلب، فما كان يقبل الزيادة والنقصان فإنه متذبذب لم يصل إلى حد الثبات المطلوب في الإيمان، وهؤلاء الطائفة يؤولون هذه الآيات التي فيها زيادة الإيمان فيقولون: المقصود بها زيادة ما يؤمن الإنسان به، فعندما أنزلت سورة العلق مثلاً: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١ - ٥] أول ما نزل من القرآن هذه الآيات من سورة العلق، ففي وقتها لم يكن يشترط على أهل الأرض إلا الإيمان بهذه الآيات فقط، فما لم ينزل من القرآن لا يجب عليهم الإيمان به، وكلما ازدادت سورة ونزلت سورة جديدة تزداد أفراد ما يلزم الإيمان به، حتى اكتمل القرآن فاكتمل الإيمان به، واكتملت السنة فاكتمل الإيمان بها، وهكذا.
ومن هنا فإن الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الإيمان وماتوا قبل أن تكتمل الواجبات، كـ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فهي أول من صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ومن الناس عموماً، ومع ذلك ماتت قبل فرض الصلاة، فلم تصل ولم تصم ولم تزك، هذه الفرائض تجددت بعدها، لكن لا يقتضي هذا نقصاً في إيمانها؛ لأن الإيمان الموجود هو ما قامت به، والذي كان موجوداً قد حققته وأتمته على أكمل الوجوه.
وكذلك الذين ماتوا بالمدينة قبل الهجرة ودفنوا إلى غير القبلة، فبعد الهجرة بسبعة عشر شهراً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الشام، هؤلاء الذين ماتوا إذ ذاك دفنوا إلى غير جهة القبلة؛ لأنهم دفنوا إلى الشام، فلذلك تشكك الناس فيهم كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في الصحيحين، لكن الواقع أنهم ماتوا على الإيمان وقد استكملوا ما نزل من الإيمان إذ ذاك، وما تجدد منه لم يكن تكليفاً لهم؛ لأنهم قد ماتوا قبل أن ينزل.
فهذا قول هذه الطائفة.
ولهم قول آخر في تأويل زيادة الإيمان المذكورة في الآيات، فقالوا: المقصود بزيادة الإيمان زيادة لازم الإيمان لا زيادته.
ولازمه هو شرطه وهو العمل، فالعمل شرط في الإيمان وليس شطراً فيه عندهم، لكن هذه التأويلات لا يحتاج إليها، فالأصل أن تبقى الآيات على فهمها الصحيح، وأن هذه الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنه يزيد وينقص.
القول الثالث في زيادة الإيمان ونقصه قول مروي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهو أن الإيمان يزيد ولا ينقص، قول بالتفصيل، ونحن ذكرنا القول الأول أن الإيمان يزيد وينقص.
وهذا القول يرى قائله أن الإيمان يزيد ولا ينقص, وسبب هذا القول أن الله تعالى ذكر في القرآن زيادة الإيمان ولم يذكر فيه نقصه، فلم يرد في القرآن ذكر لنقص الإيمان، وجاء فيه التصريح بزيادة الإيمان في عدد من الآيات، ومبنى الاعتقاد على التسليم المطلق، اعتقاد لا يرجع فيه إلى العقول المحضة؛ لما ذكرناه من أن الإيمان لا بد أن يكون جازماً لا يقبل الشك، وما أخذ عن طريق الجوارح يقبل الشك، فلذلك قال مالك رحمه الله: إن زيادة الإيمان ثابتة بالنص، ونقص الإيمان مفهوم بالعقل، وما كان وارداً بالنص فهو الاعتقاد، وما كان مأخوذاً بالعقل لا يجعل عقيدة يلزم بها الناس، فهذه رواية عنه، وإن كانت الرواية التي اشتهرت عن الإمام مالك رحمه الله موافقة لمذهب جمهور العلماء من أن الإيمان يزيد وينقص، وهي الراجح إن شاء الله تعالى.
والقول الراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الزيادة مقتضية للنقص.