[التطبيق العملي للدعوة]
إن ما نذكره من مظاهر الحكمة كله يدخل في المجال النظري، أما المجال التطبيقي فيحتاج الإنسان فيه إلى تدريب وتعويد، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بمدة زمنية، فإذا أردت -يا عبد الله- أن تدعو نفسك إلى الصدق فاكتب آيات الصدق وأحاديثه في ورقة واجعلها في جيبك، وراجعها بين الفينة والأخرى، وألزم نفسك بالصدق طيلة أسبوع كامل؛ لأنك إذا قلت لها بأن تلتزم طيلة العمر فلن تستجيب لك.
لكن إذا قلت لها: سأحاول الصدق مدة أسبوع فتستجيب لك، فإذا مضى أسبوع وقد استطاعت نفسك الإقلاع عن الكذب فقل لها: إنما أنت مخادعة، وأنت تستطيعين الصبر عن الكذب مدة الحياة، فقد صبرت أسبوعاً كاملاً عن الكذب.
وهكذا إذا أردت الإقلاع عن الغيبة فاكتب آيات الغيبة وأحاديثها في ورقة واجعلها في جيبك، ثم راجعها بين الفينة والأخرى، ثم اجعل لنفسك أسبوعاً لا تسمع فيه غيبة ولا تشارك فيها ولا تنطق بها، فإذا نجحت في ذلك عاتب نفسك بهذا العتاب.
وكذلك في التعود على الاستغناء بالله عمن سواه، فإذا أردت أن تعود نفسك ألا تسأل أحداً حاجة إلا الله فاكتب الآيات المتعلقة بذلك والأحاديث المتعلقة به، وراجعها بين الفينة والأخرى، وأدب نفسك بذلك أسبوعاً أو أسبوعين، ثم إذا نجحت فيه فقاض نفسك إلى ضميرك، وقل: قد نجحت في ذلك أسبوعاً أو أسبوعين فلم العناد؟ ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه على أن لا يسألوا أحداً شيئاً، فكانوا بعد ذلك إذا وقعت عصا أحدهم وهو راكب لم يأمر أحداً أن يناوله عصاه، بل ينزل حتى يأخذ عصاه.
ولذلك أخرج البخاري في الصحيح عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، وأكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان، منهم عمرو بن تغلب.
قال عمرو: فقال كلمة ما أود لو أن لي بها حمر النعم).
وكان عمرو لا يسأل أحد شيئاً، وكذلك حكيم بن حزام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال له بعد أن ابتسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن لم يأخذه بحقه كان كالذي يأكل ولا يشبع.
قال حكيم: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً.
فكان بعد ذلك لا يأخذ هدية ولا عطية من أحد)، حتى إن عمر كان يدعوه ليأخذ حظه من بيت المال فيمتنع، فيشهد عليه الشهود أنه قد أعطاه نصيبه من بيت المال فتركه، فلابد أن يتعود الإنسان على هذا تطبيقياً في نفسه.
ثم كذلك في التعاون مع الأهل، فإذا أردت أن لا تغضب، وأن تمتثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك في قوله: (لا تغضب) فاكتب أحاديث الغضب واجعلها في ورقة في جيبك، وطبقها على أهلك.
وإذا أردت التخلق بخلق النبي الكريم الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] فابدأ بأمر يسير جداً، وهو أنه إن كان سائق أو خادم في البيت أو عامل في المكتب أو المتجر أو غير ذلك فحاول أن لا تقول له لشيء فعله: لم فعلت؟ ولا لشيء تركه: لم تركته؟ فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أنس: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلت، ولا لشيء تركته: لم تركت)، ثم إذا نجحت في هذه التجربة في نفسك فحاول أن تطبقها على الآخرين فقد أصبحت أستاذاً في الدعوة، حاول أن تطبقها على الآخرين فقد أصبح في زماننا هذا علم متطور يدعى (علم النفس الدعوي) يدرس في الكليات، يعرف به الإنسان الأسلوب المؤثر، ويختار به الأساليب التي يستجيب لها الناس، ويستطيع به تقييد التجارب النافعة من حياته هو وحياة من يخالطهم من الناس، ومن عرف هذا العلم لم يخل وقت من أوقاته من درس يستفيده، فما من أحد يلحظه إلا تعلم منه درساً إما أن يكون درساً إيجابياً وإما أن يكون سلبياً، فإن رآه فعل أمراً محموداً تعلم منه درساً إيجابياً، وإن رآه فعل أمراً مذموماً تعلم منه درساً سلبياً فبادره بالترك، ولذلك فإن أنبياء الله عليهم السلام كانوا يستفيدون هذه الدروس حتى من البهائم، فنبي الله سليمان عليه السلام استفاد من نصيحة الهدهد الذي قال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:٢٢]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ماذا قال هذا الطائر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء)، فالدنيا كلها عليها الغبار، فائدتها أن يأكل الإنسان ما يغنيه.
كذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تجري في السبي تبحث عن ولدها حتى وجدته فألصقته ببطنها وألقمته ثديها، فقال: (أترون هذه ملقية ولدها في النار؟ قالوا: لا.
قال: فالله أشد رحمة بعبده المؤمن من هذه بولدها).
إن هذا المقام إذا وصله الإنسان أصبح أستاذاً يمكن أن يستملي الدروس من تلقاء كل ما ينظر إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الدرس من هذه المرأة التي تجري تبحث في السبي عن ولدها.
وسار ذات يوم -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- في طريقه بين المسجد والبقيع، فمر بسوق بني قينقاع، فرأى جدياً أسك ميتاً مرمياً فقال: (من يشتري مني هذا الجدي -والناس في السوق يقبلون على التبايع ويجمعون الدراهم والدنانير-؟ فقالوا: يا رسول الله! لو لم يكن ميتاً لكان عيباً أنه أسك! فقال: من يشتريه بأربعة دراهم؟ فقالوا: لا أحد يشتريه بذلك؛ إنه أسك صغير الأذنين ميت)، جيفة فلا أحد يشتريه بذلك، فجعله مثلاً للدنيا، وبين لهم حرص أهلها عليها، وأنهم إنما يتنافسون على الجدي، فهذه الأساليب المؤثرة هي التي تعلمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منه بعد ذلك.
فقد مر أبو هريرة بالسوق، فإذا الناس قد انقطعوا في البيع عند مجيء البضائع، وغفلوا عن أنفسهم من شدة حرصهم على الربح، فصاح فيهم: يا أهل السوق! قد حرمتم نصيبكم من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاجتمعوا إليه حينما قال هذه الكلمة المؤثرة، فقال: قد تركت ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الآن في المسجد، فأدركوا نصيبكم منه.
قالوا: من يرعى لنا تجارتنا؟ فقال: أنا أرعاها لكم حتى ترجعون.
فخرج التجار يشتدون عدواً ويتسابقون إلى المسجد فدخلوا، فما رأوا إلا حلق العلم، فرجعوا فقالوا: ما رأينا إلا حلق العلم.
فقال: هو ذاكم، هذا ميراث النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الراحة اليسيرة التي أقبل فيها التجار إلى المسجد وخرجوا بنية صادقة يريدون نصيبهم من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم كانت راحة لهم من الانغماس في الدنيا بالبيع والشراء، أراحهم بها أبو هريرة رضي الله عنهم وقطعهم عن ذلك الإقبال الشديد والانهماك في الدنيا.
ونظير هذا قول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩]، فهو مقتض أن يحصل على الرحمة من أقاربه وذويه الذين يكذبونه ولا يرضون باستجابة دعوته.
ومن هذه التطبيقات ما حصل لرجل من الدعاة، فقد أعد برنامجاً دعوياً لمجموعة من الشباب، فقال: سنأخذ شهرين في الجانب النظري وأربعة أشهر في الجانب التطبيقي.
فطال عليهم الجانب التطبيقي، فلما أكملوا الجانب النظري قال له أحد الشباب: أما أنا فلا أحتاج إلى التطبيق فسأطبق بنفسي.
فقال: أحسنت وبارك الله فيك، اذهب واستعن بالله.
فخرج -وكان اليوم يوم الجمعة- فدخل مسجداً لصلاة الجمعة، فقام الخطيب على المنبر، فافتتح خطبته بحديثٍ موضوعٍ طويل، فأطاله الرجل طولاً عجيباً لم يصبر عليه الشاب، فوقف في أثناء الخطبة يصيح ويقول: أخرجوا هذا الإمام من مسجدكم؛ فهو كذاب وضاع يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)، وقال: (إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد)، و (من قال علي ما لم أقل فليلج النار)، وقال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فقال الإمام: أخرجوا هذا من هذا المسجد.
فقام الناس عليه وأشبعوه ضرباً وأخرجوه من المسجد.
فعاد حزيناً كئيباً إلى الشيخ فشكا إليه ما لقي من هؤلاء القوم في المسجد، وأن جوابهم لم يكن جواباً علمياً ولم يكن بالبرهان، وإنما كان بالعصا، فقال له الشيخ: اصبر يا بني عليهم أسبوعاً، فإذا كانت الجمعة القابلة فسنذهب ونطبق بعض الدروس التي سمعتها في هذا المسجد.
فقبل الشاب ذلك مرغماً، فلما كان يوم الجمعة الآخر خرج الشيخ وطلابه إلى المسجد، فجاؤوا مبكرين، وأخذوا مقابل ظهر الإمام وجلسوا يذكرون الله، فصعد الإمام المنبر فبدأ خطبته بنفس الحديث الذي خطب به في المرة الماضية، وأخذ عليه الشيخ ووجد في نفسه تعصباً على هذا الحديث، فسكت الشيخ وهو يقلب رأسه كالمعجب بذلك، ولا يفعل ذلك إلا متعجباً لا معجباً به، فلما سلم الإمام تقدم الشيخ إليه، وسلم عليه تسليماً مبالغاً في احترامه، ثم وقف فأراد أن يتقدم فقدم إليه الإمام الميكرفون؛ لأنه عرف أنه سيثني عليه، فقال: أيها الناس! إن إمامكم هذا رجل مبارك، فمن أراد البركة وغفران الذنوب فلينتف شعرات من لحيته.
فاجتمع عليه أهل المسجد حتى نتفوا لحيته، وما تركوه حتى سال الدم من لحيته، فاقترب إليه الشيخ فوضع يده على كتفه وقال: هل يكفيك هذا تأديباً على وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعرف الشاب أنه ما زال محتاجاً إلى التطبيق العملي.
ومما يقابل هذا أن إماماً من الأئمة جاءه شاب يحمل شهادة - أظنها شهادة في الشريعة- وهو يحفظ القرآن، ويرى أنه أحق بالإمامة من الإمام، ومعه أوراق رسمية كأنه معين من جهة حكومية ليتولى إمامة المسجد، فتقدم وأخذ أوراقه ووقف إلى جانب الإمام، ففهم الإمام قصده،