للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من حكم الزكاة]

الركن الثالث من هذه الأركان بعد الشهادتين والصلاة هو الزكاة.

هذه الزكاة حكمتها الأصلية إبداء مسئولية الأغنياء عن الفقراء فيما استخلفهم الله تعالى فيه وجعله تحت أيديهم من المال، وأن يعلموا أن المال ليس ملكاً لهم، فلم ينالوه ميراثاً عن آبائهم ولم ينالوه بحظوظهم وكد جوارحهم وأعمالهم، بل نشاهد كثيراً من الناس أقوى منهم أبداناً وأقوى عقولاً وتفكيراً وأفرغ بالاً، ويسعون لجمع هذا المال السنوات ذوات العدد فلا يصلون منه إلى طائل.

ونجد كثيراً من الناس يعيش عمراً طويلاً ويسخر عمره كله لجمع المال ومع ذلك يموت فقيراً، فعلم هنا أن المال رزق الله، وأنه ليس ملكاً للإنسان وإنما هو أمانة عنده، وهو وكيل فيه ينتظر العزل في كل حين، وعزله إما بموته، وهذا العزل النهائي، فإذا مات لم يصحب من ماله إلا كفنه وحنوطه، إذاً هذا العزل الأخير.

وإما أن يعزل بما دون ذلك كالفقر، والجائحة التي تجتاح ماله، والديون التي تقضي على تصرفاته وتحجر عليه، أو بوجود الأولاد الذين هم مبخلة مجبنة، فالإنسان يمكن أن يعطي ويجود مالم يكن له أولاد، أما إذا كانت له ذرية صغار فإن ذلك داع للجبن والبخل، ولهذا ضرب الله لنا هذا المثل العظيم في كتابه في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:٢٦٦]، فقوله: (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ)، هذا داع لحرصه على المال وجمعه له، ومن هنا فإن من أوجه العزل أن يكون للإنسان ذرية.

وكذلك من أوجه العزل الكبر، فالهرم متعب للجسم وناقص للعقل ومانع من التصرف في كثير من الأمور، فلابد أن يصل الإنسان إلى هذا الكأس الذي يشرب منه كل الناس، وينتقل إلى هذا المكان الذي ينتقلون إليه جميعاً، ومن لم يمت في قوته وشبابه يصل إلى الهرم المفند الذي يمنعه تصرفاته وملذاته.

وبعد هذا أنواع أخرى من أنواع العزل، كالمرض المانع من التصرف، وكثير من الناس تشل جوارحه في حياته فيعزل بذلك عن التصرف في ماله، فيرى ماله يتصرف فيه الآخرون، ويمرض فترات من الزمن فيرى أن كثيراً من الناس لم يكونوا مؤتمنين على ماله قد اؤتمنوا عليه وسعوا فيه بما لا يرضيه، فهذه أنواع من أنواع العزل.

إن الذين ولاهم الله على هذا المال جعل عليهم وفي أعناقهم أمانة عظيمة، وهي حقوق الفقراء الذين خلق الله لهم هذا المال، فالله خلق المال للناس أجمعين، وجعله تحت أيدي بعضهم ليكون مسئولاً عمن سواه، وشرفه بذلك: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢].

وكذلك من حكمة الزكاة وجود الترابط وحصول الألفة بين المجتمع، فإن الأغنياء يعطون جنس مالهم إلى الفقراء، فتؤخذ من أغنيائهم زكاة ترد على فقرائهم كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن من حكمة الزكاة أن يستشعر الإنسان أن هذا المال الذي تحت يده ليس مملوكاً له، وفيه حق لابد من إخراجه، ويستشعر حق الله تعالى فيه فيخرجه.