والمقصود بكتب الله الإيمان بكلامه، فالله سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء بما شاء، ويشرع لعباده ما شاء، وكلامه نوعان: كلمات خلقية.
وكلمات تشريعية.
فالكلمات الخلقية هي الكلمات القدرية، مثل قوله لهذا:(كن فيكون)، وقوله لهذا:(مت)، وقوله لهذا:(اذهب) وقوله لهذا: (اجلس)، وهذه الكلمات يقف عندها البر والفاجر، لا يتعداها بر ولا فاجر، فإذا قال لأحد:(مت) لا يستطيع أن يتأخر لحظة واحدة، حتى لو كان أشد وأعتى أعداء الله، ولما قال لـ أبي جهل:(مت) هل استطاع أن يتأخر؟ ما استطاع أن يتأخر.
إذاً هذه هي الكلمات الكونية، وهي كثيرة جداً غير محصورة في عدد محدد، ولا ينزل بها الملائكة، ولا تنزل وحياً، وإنما يخاطب الله بها من شاء في كل اللحظات، وهي المذكورة في قول الله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:٨٢] , وفي قوله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:٤٠] , وهي المذكورة في قوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}[الكهف:١٠٩] , وفي قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}[لقمان:٢٧].
أما الكلمات التشريعية فهي التي يشرع الله بها ما شاء لعباده، ويفصل فيها ما شاء من الأحكام، وهذه محصورة العدد لا تنزل إلا على الأنبياء، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الشورى:٥١] , وهذه هي الكتب المنزلة يقف عندها البر ويتعداها الفاجر، قال لـ أبي جهل:(آمن)، فلم يؤمن ولم يقبل، فإذا قال للكافر:(صل) فيمكن أن يمتنع من ذلك، وإذا قالها للبر المؤمن بادر إلى ذلك، إذا سمع المنادي ينادي:(حي على الصلاة.
حي على الفلاح) توضأ وجاء مقبلاً إلى المسجد ليصلي، فهذه الكلمات التشريعية يقف عندها البر، ويتعداها الفاجر، وهي محصورة العدد، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ونزل بها جبريل عليه السلام، وهو أمين الوحي عليهم، وهذه يقع فيها النسخ والتأخير والإنساء، ولا يقع ذلك في الكلمات القدرية، والكلمات القدرية يقع فيها تجاذب إرادتين، مثل قول الله تعالى -فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم-: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه) , هذا تجاذب الإرادتين، لكن لا يمكن أن يقع فيها النسخ ولا التغيير، قال تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:٣٩].
أما الكلمات التشريعية فنزلت الشرائع على الأنبياء، ونسخ منها ما لا يتلاءم مع الوقت الذي يأتي فيه أنبياء جدد، حتى استكمل ذلك بهذا الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فنسخ كل ما سبقه وكان مهيمناً عليه، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا لا يمكن الزيادة فيه اليوم ولا النقص منه، فهو محفوظ:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:٤٢].