للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة بني إسرائيل مع طالوت]

عندما قص الله علينا قصة بني إسرائيل وامتحاناتهم التي امتحنهم بها في طريق الجهاد بين أنه في كل امتحان يسقط جمهور، ثم في الامتحان الذي يليه يسقط جمهور الناجحين في الامتحان السابق، حتى لم يبق إلا الفئة القليلة، ولذلك قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٦] هنا قالوا: نقاتل في سبيل الله، وهذا أول امتحان.

{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:٢٤٦] وهذا سقوط في الامتحان ورسوب فيه بالكلية، لأنهم لم يعودوا مجاهدين في سبيل الله وإنما أصبحوا مجاهدين في سبيل أوطانهم وأولادهم: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:٢٤٦] وهذا الرسوب المطلق وما نجح إلا عدد قليل: {مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٤٦].

{قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:٢٤٧] هذا امتحان آخر.

{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:٢٤٧] فرسبوا: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٤٧].

هذه دورة، وهذا الامتحان الثاني يكون للذين وصلوا إلى الدور الثاني، ثم بعد ذلك جاء امتحان آخر: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:٢٤٨ - ٢٤٩] هذا امتحان آخر: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمَْ} [البقرة:٢٤٩] الذين نجحوا في الامتحان الأول، والذين نجحوا في الدورة بعد ذلك، هنا تساقطوا ولم يبق إلا قليل من قليل، فلذلك قال: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:٢٤٩].

ثم بعد هذا الامتحان الآخر، {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:٢٤٩]، وهم قليل من قليل {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:٢٤٩] وهذا امتحان آخر فرسبوا فيه مع الأسف: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:٢٤٩ - ٢٥١].

ولذلك بين الله سبحانه وتعالى سنته في التدافع بين الناس في الأرض: {ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:٢٥١] فهذا فضل الله على الناس يقتضي التدافع بينهم، فلو استبد أهل الباطل وحدهم ولم يجدوا من يقارعهم، أو استبد أهل الحق وحدهم، ولم يجدوا من يقف في وجههم لفسدت الأرض، لكن الدنيا دار امتحان، ولا بد أن يبقى فيها أهل الامتحان، ومن هنا لا بد أن يبقى الحق فيقف في وجهه أقوام، ويبقى الباطل كذلك فيقف في وجهه أقوام، ويبقى الصراع مستمراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه سنة الله في التدافع، فهؤلاء يردعهم هؤلاء وهكذا.