من أسباب الجرائم: أن كثيراً من الناس يكون ضعيف التوكل على الله سبحانه وتعالى شديد التوكل على الأسباب، فيظن أن هذه الأسباب هي التي توصله إلى مبتغاه وما يطلبه، فيتوكل على الأسباب، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويسعى لبذل الجهد فيها، لكنه سرعان ما تخونه هذه الأسباب، ويرى أنها لا توصل إلى نتيجة، فيقدم على جريمته تبعاً لذلك.
إن الأسباب خوَّانة، فكم رأينا من الذين بذلوا أعمارهم وصرفوا جميع الحيل في جمع المال فما حصلوا منه على طائل! وكم رأينا آخرين لم يبذلوا فيه كثيراً من الوقت ولا من الجهد ولا من عناء التفكير، ومع ذلك آتاهم الله منه ما كتب لهم! إن الإنسان لن ينال إلا حظه وما كتب له.
ومن هنا فينبغي ألا يتوكل على الأسباب، وألا يخرجها من طورها، وألا يتعدى بها حدودها؛ فالذين يتوكلون على الأسباب يصابون بإخفاق شديد.
فهذا ابن زريق البغدادي يخرج من بغداد مسافراً إلى الأندلس، وينفق في ذلك نفقات باهضة؛ ليمدح أحد ملوك الأندلس، وهو يرجو منه مالاً ليسدد به ديوناً عليه في بغداد، فصبر على قطع هذه المسافات الطويلة من بغداد إلى الأندلس، فلما أتى الملك وامتدحه بقصيدته العجيبة وأنشدها بين يديه وطرب لها الملك، كافأه عليها مكافأة لا تساوي عشر ما أنفقه في سفرة، فتأثر تأثراً بالغاً، وذهب إلى ضفة النهر وكتب قصيدته العينية المشهورة ومات غماً! يقول في هذه القصيدة: لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعهُ جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدَّرت أن النصح ينفعهُ فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عذله فهو مضنى القلب موجعهُ يكفيه من لوعة التفنيد أن له من النوى كل يوم ما يروعهُ ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالرغم يزمعه كأنما هو في حل ومرتحل موكل بفضاء الأرض يذرعهُ إن الزمان أراه في الرحيل غنىً ولو إلى السد أضحى وهو يقطعهُ وما مكابدة الإنسان واصلةٌ رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعهُ قد قسَّم الله رزق الناس بينهمُ لم يخلق الله من خلق يضيعهُ لكنهم كلفوا حرصاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات تقنعهُ والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه أرباً ويمنعه من حيث يطلعهُ أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعهُ ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعهُ وكم تشفَّع بي أن لا أفارقه وللضرورة حال لا تشفَّعهُ وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحىً وأدمعي مستهلات وأدمعهُ لا أكذب الله ثوب العمر منخرقٌ عني بفرقته لكن أرقعهُ إني أوسع عذري في جنايته بالبين عنه ونفسي لا توسعهُ إلى آخر ما ذكره في قصيدته الطويلة.
فهؤلاء الذين يتكلون على الأسباب ويعتنون بها إذا جاءهم إخفاق -أياً كان- رجعوا أدراجهم، وانكبوا على وجوههم، وأصابهم الإحباط والندم.
ويحصل هذا في شرائح الناس المختلفة: فالذين يطلبون العلم ويهتمون به، إذا كانت هممهم أقوى من قرائحهم كثيراً ما يصابون بهذا النوع من الإحباط، فينفق أحدهم السنتين أو الثلاث أو الأربع، فلا يحصل على العلم الذي يطلبه، لكنه لم يتوكل على الله في جمعه للعلم، ولم يقدم الأسباب الشرعية فيه، وإنما اتكل على حوله وقوته فوكله الله إلى حوله وقوته، ولم يعطه من العلم ما يطلب؛ فلذلك ينكص على عقبيه، ويصاب بإحباط شديد، بل ربما تأثر عقلياً أو نفسياً، وكذلك الذين يجمعون الدنيا، ويتكلون في ذلك على الأسباب، يخاطرون المخاطرات ويبذلون الجهود المضنية، وكثيراً ما يموت بعضهم في سبيل الوصول إلى هدف دنيوي معتاد، أو يقترف جرائم عظيمة بسبب الوصول إلى ذلك الذي يريده، وإذا وصل إليه انتهى عمره دون أن يصل إلى شيء.
كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى: أطعت الهوى فالقلب منك هواء قسا كصفا مذ زال عنه صفاء ورمت جدىً ما إن يدوم جداؤه وسيان فقر في الثرى وثراء كفى بالفنى قوتاً لنفس فناؤها قريب ويكفيها طراً وطراء ولو في الملا رمت الملاء حللت في رجاه إذا ما صح منك رجاء كأن الورى والموت نسي وراءهم ذوات الأذى قد حازهن أباءُ فلذلك يصاب هؤلاء بالإحباط إذا لم تتحقق آمالهم؛ لأنهم لم يتبرءوا من حولهم وقوتهم، ولم يتوكلوا على حول الله وقوته، ولم يعتصموا بحول الله وقوته، وتوكلوا على الأسباب فخانتهم الأسباب فأصيبوا بهذا الإحباط.
كذلك الذين يدعون إلى الله كثيراً ما تعجبهم الأسباب الدنيوية وينشغلون بها ويهتمون بها، ويبذلون فعلاً ويضحون في سبيل أهدافهم، لكنهم إذا غفلوا عن التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتصام بحوله وقوته، والبراءة مما لديهم من حول وقوة، كثيراً ما يصابون بالإحباط، فتتراجع الآمال، وتنسد الأبواب، ويخبو النور الذي كانوا يعلَّقون عليه أملاً في جهة من الجهات، فإذا لم يكونوا أصحاب إيمان وقوة كثيراً ما ينكصون على أعقابهم، ويرتدون أدراجهم، نسأل الله السلامة والعافية!