ثم اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن من هداه الله للدعاء ينبغي أن تكون الآخرة أكبر همِّه، وأن يشتغل بما هنالك، وأن يعلم أن هذه الحياة الدنيا لا تساوي شيئاً، ولو عجل للإنسان فيها ملذاته وشهواته، وكل ما يرتجي ويبتغي، فذلك خسران له في الآخرة؛ فقد قال الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:١٨ - ١٩].
وإن الشيطان كثيراً ما يسعى بالإنسان إذا أصابته نكبة من نكبات الدنيا إلى أن يهتم بحاله في الدنيا، وأن يغفل عن حاله في الآخرة، فعليكم عباد الله ألا تتبعوا خطوات الشيطان، وأن تعلموا أن ما يصيبكم في هذه الحياة لا يساوي شيئاً مما ينتظر الآخرين في الدار الآخرة، وأن تعلموا أن الله سبحانه وتعالى اختاركم حين أصابكم في هذه الحياة؛ ولذلك فإنه يقول في خطابه للكافرين يوم القيامة:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}[الأحقاف:٢٠].
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ومن حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه كلاهما:(أنهما كانا صائمين، فقدم لهما طعام الإفطار، فلما رأياه ألواناً متنوعة بكيا حتى أبكيا من حولهما، فقال الناس لـ عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أبا المنذر؟! قال: إنا كنا أهل جاهلية وشر، فبعث الله إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فآمنا واتبعنا، فعادانا الناس في ذات الله، فمنا من مات ولم يتعجل شيئاً من أجره، منهم أخي مصعب بن عمير؛ قتل يوم أحد، وليس له إلا سيفه عليه، وبردة إن نحن غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإن نحن غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخِر، فماتوا ولم يتعجلوا شيئاً من أجرهم، وبقينا وراءهم، ففتحت علينا الدنيا أبوابها، فنحن نهدِ بها، فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}[الأحقاف:٢٠]).
عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى هو الكريم، اللطيف بعباده، الرحيم الذي لا تحجب عنه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، فتعرضوا لنفحاته سبحانه وتعالى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
هي نفحات ربنا الكريم سبحانه وتعالى، فتعرضوا لها، واسألوا الله من فضله كما أمركم الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.