فالأرحام لابد أن تبل ببلالها، ولا يقطعها الكفر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:(أتتني أمي بالمدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش، وكانت على دين أهل مكة، فجاءت راغبة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشاوره فيها فقلت: إن أمي جاءت راغبة وهي مشركة، فقال: صلي أمك)، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل أمها وهي مشركة.
ولذلك فسر ابن العربي وغيره قول الله تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:٨] قالوا: تقسطوا إليهم، أي: تؤدوا إليهم قسطاً من أموالكم، فالإقساط في هذه الآية مشتق من قسط المال الذي هو جزؤه، على تفسير ابن العربي وغيره، وسبب نزول هذه الآية قصة أسماء مع أمها.
وكذلك الفجور فإنه لا يقطع صلة الرحم، حتى لو كان الإنسان مبتدعاً أو مضيعاً لما أمر الله بالحفاظ عليه، فإن ذلك لا يمنع صلة رحمه، بل يجب على الإنسان أن يصل رحمه، وأولى ما يصل به رحمه أن ينصح له، وأن يرشده إلى عدم تضييع ما أمر الله بالحفاظ عليه.
ولذلك فإن حق المضيع المبتلى في دينه هو النصح؛ ليرجع إلى دينه الذي ضيعه، فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول:(لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).
إن أعظم البلاء البلاء في الدين، فالإنسان المفرط المضيع الذي يقبل ويدبر في معصية الله عز وجل مبتلى بلاءً عظيماً، وبلاؤه في الدين، وشر البلية البلاء في الدين، ورحمته إنما هي بنصيحته والاقتراب منه؛ لعل المقترب يحول بينه وبين الشيطان.
فالابتعاد منه لا يزيده إلا تمادياً في أمره، ولا يزيد الشيطان إلا عوناً عليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يعينوا الشيطان على أخيهم، فلابد أن يحاول الإنسان القرب من ذوي رحمه، وصلتهم بما يستطيع، إن هذه الصلة التي بينا نحتاج إلى تعريفها، وبالأخص في مثل زماننا هذا الذي كثرت فيه الوسائل وانتشرت.