إن حاجة الإنسان إلى هذا الخشوع هي حاجته إلى تغذية قلبه، فهذه القلوب إنما تتغذى بالخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، والأنس به، والقرب إليه، وكلما كان الإنسان أعلى منزلة في الإيمان كلما كان أكثر خشوعاً وإقبالاً على الله سبحانه وتعالى وتأثراً بعبادته ومناجاته له سبحانه وتعالى.
إن الله سبحانه وتعالى أثنى على الخاشعين في الصلاة في قوله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:١ - ٢].
ولا يقتضي هذا أن الخشوع مختص بالصلاة، بل الخشوع في كل عبادة لله سبحانه وتعالى، سواء كانت قلبية أو بدنية أو مالية، وسواء كانت فعلية أو تركية؛ إذ لابد فيها من هذا الخشوع؛ فهو روحها، وبه حياتها، وهو معناها، وإذا خلت العبادة من هذا الخشوع كانت روتيناً يفعله الإنسان كما يفعل الطفل إذا رأى مصلياً، فإنه يقوم ويصلي ولا يفهم شيئاً من ذلك، وإنما يركع ويسجد ويقوم كما يفعل في تقاليده للأشخاص جميعاً، والإنسان لا يرضى أن يكون كالطفل الذي لا يفهم شيئاً من تصرفاته، فلذلك لابد أن يفهم معنى القيام، ومعنى الاستقبال، ومعنى رفع اليدين، وأن يجعل الدنيا وراء ظهره، ويفهم معنى التكبير إذا كبر، ويعلم أنه إذا كبر ملأت تكبيرته ما بين السماء والأرض، ويفهم معنى الفاتحة التي يقرؤها، ومعنى القرآن الذي يقرأ بعدها، ومعنى تكبيره للركوع، ومعنى تسبيحه وتعظيمه فيه، وهكذا في كل أجزاء صلاته.
وهكذا في عباداته الأخرى، فالصائم لابد أن يخشع أيضاً، ونحن ننتظر قبل رمضان قدوم هذا الشهر الكريم الذي هو شهر الصيام، فكثير من الناس يؤدي الصيام فيه من غير خشوع، فتجدهم في نهار الصيام وهم يعملون أعمالهم كما كانوا لا يحسون برغبة ولا رهبة، ولا يؤثر فيهم صومهم شيئاً، وتراهم كذلك في ليالي رمضان الفاضلة العظيمة التي يزداد فيها عمر الإنسان بما لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى كما إذا وفق لقيام ليلة القدر، فإنه يزاد على الأقل بأربع وثمانين سنة في ليلة واحدة، ففائدة العمر للعبادة، وهذه الليلة خير من ألف شهر و (خير) أفعل تفضيل؛ ولا يقتضي ذلك حصرها في ألف شهر فإذاً: أقل الناس من كانت ليلة القدر في حقه بقدر ألف شهر، وألف شهر أربع وثمانون سنة وزيادة ستة أشهر تقريباً، فهذه المدة التي نحتاج إليها بزيادة أعمارنا، لا يستفيد منها أولئك الذين يشغلون ليالي رمضان بما لا خير فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، وفي رواية:(إني امرؤ صائم)، فلابد أن يستشعر الإنسان أنه في حرمة الصيام.
فإذا كنت في صلاتك فخاطبك إنسان فهل ستجيبه؟ لن تجيبه؛ لأنك مشغول بحرمة الصلاة، فكذلك إذا كنت في حرمة الصيام، فاعلم أنك في حرمة عبادة عظيمة هي مثل الصلاة؛ فلذلك لابد أن تشتغل بصيامك.
(فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، (فليقل) أي: في قلبه، أي: فليتذكر ذلك وليقل: إني صائم؛ لأن هذا الصيام يحجبه ويمنعه عن إجابة ذلك الإنسان بمثل قوله.
وهكذا في العبادات كلها، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:٦٠]، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت:(أهو الذي يسرق ويزني ويكذب وهو يخاف الله؟ قال: لا، بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف ألا يتقبل الله منه)، فهؤلاء يؤتون ما آتوا، فيقدمون الأعمال الصالحة لأنفسهم وهم يخافون خوفاً شديداً ألا يتقبل الله منهم، ولذا قال سبحانه:{وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:٦٠ - ٦١].