للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمير المسلمين يوسف بن تاشفين]

ثم قتل يحيى بن عمر اللمتوني شهيداً في سبيل الله، فبايع عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر الذي يشتهر بين العوام اليوم بـ ابن عامر، وهو أبو بكر بن عمر، فبايعه عبد الله بن ياسين والمرابطون معه، واضطلع بما كان يضطلع به أخوه من قبله، فقام بالأمر خير قيام، ولكنه فوجئ بظهور رجل في المغرب في وادي مراكش يدعي النبوة، فأرسل إليه جيشاً من المرابطين، وكان قائد هذا الجيش يوسف بن تاشفين، فلما وصل يوسف إلى تلك البلاد، رأى البون الشاسع بين ما يعيشه أهلها وبين ما يعيشه المرابطون الذين تربوا على ذلك المنهج، فأراد أن يقيم فيهم دولة الإسلام من جديد، فلما قتل هذا المتنبئ الذي ادعى النبوة، وقتل أصحابه ومزقهم شر ممزق؛ بنى مدينة مراكش، وجعلها عاصمة لدولة الإسلام في تلك البلاد.

ثم سير الجيوش والبعوث حتى خضع له أهل تلك الأرض كلها، وسمى نفسه أمير المسلمين؛ تأدباً مع الخلافة العباسية في المشرق التي كان الخليفة فيها يسمى أمير المؤمنين، فلم يرد يوسف أن يأخذ هذا اللقب، بل تسمى بأمير المسلمين، ولا يعرف في تاريخنا الإسلامي رجل تلقب أمير المسلمين إلا يوسف بن تاشفين وابنه علي، أما من سواهما فإنما يتلقب بلقب الخلافة: أمير المؤمنين، وهو لقب عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء.

ولما قويت شوكته وتغلب على المغرب، رأى أن الرجوع إلى هذه البلاد من الصعوبة بمكان، وأن حياة الناس متفاوتة بين الحضارة في الشمال والبداوة في الجنوب، فأرسل الرسل إلى ابن عمه أبي بكر بن عمر ليتقابل معه، فالتقيا، فنصبه على ما تحت يده من الأرض، ورجع أبو بكر إلى هذه البلاد، وقد أتحفه يوسف بالمال والرجال، وساعده بما يريد من المساعدات.

ثم وسع يوسف نفوذه حين استنجده أهل الأندلس من المسلمين المستضعفين، وإنما وقع استضعافهم بعد تخالفهم وتقاتلهم وتناحرهم فيما بينهم، فقطع إليه المعتمد بن عباد المنذري اللخمي البحر مستنجداً به، فخرج يوسف في ثلاثين ألف رجل مسلح من المؤمنين المجاهدين، فقطعوا البحر وجاهدوا الأسبان في شهر رمضان، وكان التقاء الصفين في يوم الجمعة، وكان يوسف يخطب في أسفاره كما يخطب في إقامته؛ لأنه يرى نفسه خليفة إماماً، فهو في كل بلد الإمام، فوقف على المنبر خطيباً يوم الجمعة في رمضان، فثارت في وجهه خيل الأسبان؛ فنزل من المنبر، واخترط سيفه، وأمر المجاهدين بالقتال فقال: يا خيل الله! اركبي، وبدأت المعركة، وكان بين يدي يوسف المعتمد بن عباد، وتناثر القطن من فوق رأسه عندما لعبت السيوف في طاقيته على رأسه، ولم تزل الدماء تسيل حتى انهزم الأسبان بعون الله، وكان ذلك اليوم مشهوداً، وهو يوم (الزلاقة) الذي نصر الله فيه المؤمنين وأعز فيه دينه وجنده.

وقد قتل في ذلك اليوم مائة وعشرون ألفاً من الأسبان الصليبيين، وكان المسلمون يعرفون الأسبان بتعليق الصلبان في رقابهم، فاستحر فيهم القتل حتى لم ينج منهم إلا فئة يسيرة هربت مع الأدفنش، وهو ملك الأسبان في ذلك الوقت.

ثم أراد يوسف أن يضم الأندلس إلى المغرب حتى يوحد دولته؛ لأنه رأى أن الحضارة متناسبة، فضم الولايات الأندلسية وأخضعها لسلطانه، ومن ذلك الوقت هابه المستعمر الكافر الصليبي، ولم يستطع الجرأة على ما كان يغير عليه من كور الإسلام وثغوره.

ثم مات يوسف بن تاشفين بعد أن مكث سبعين سنة يدعى أمير المسلمين، وتولى بعده ابنه علي، واستمر على نهج أبيه حتى توفي سنة خمسمائة وأربعة عشر.

وبقيت الولاية الجنوبية وهي إمارة أبي بكر وأبنائه في هذه البلاد، حتى سرى إليها داء الدول، وحصل فيها خلاف؛ فسقطت، ثم قامت على أنقاضها دولة (البدوكل) التي قامت في شمال هذه البلاد، وإن كانت لم تصل إلى مستوى دولة المرابطين من ناحية القوة والانتشار، وهي التي تربى فيها سيدي محمد الذي نشأ في هذه القبيلة، وتربى في هذه الدولة.

ثم جددوا دعوة الإسلام في هذه البلاد، وأقاموا علمه بارزاً، ولكنهم لم يستطيعوا زيادة الفتوح، ولم يستطيعوا أن يتجاوزوا ما وصل إليه المرابطون الأولون.

وهنا تأتي حقبة في التاريخ لا نعرف كثيراً من أبعادها، ولكننا موقنون أن الدعوة قائمة، وأن المجاهدين فيها كانوا يضحون بما كان يضحي به أسلافهم في سبيل الله، ولكننا لا نجد كثيراً من المعلومات عنها.