كذلك فإن من وسائل مكافحة هذه الجرائم وإزالتها بالكلية: أن يعلم الناس أحكام الله فيها وأن تشاع بينهم.
فـ عبد الله بن ياسين رحمه الله تعالى -وهو أول من أقام رباطاً في هذا البلد، وأحسب أنه يكتب له أجر من جلوسكم هذا ومن جلستكم هذه ومما يشبهها من الجلسات إلى يوم القيامة- عندما أتى إلى هذه البلاد ووجد أهلها لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا يطبقون من الدين إلا رسمه، وجمع خيرتهم في رباطه، أول ما بدأ أن علمهم الزواجر، ككبائر الإثم وما يتعلق بأمر العقوبات، وأشاعها بين الناس حتى أصبح الناس يفرون منها ويرهبونها ويخافونها، ثم بعد ذلك علمهم الفرائض، وبين لهم العقوبات التي تترتب على تركها، وهي في أغلبها عقوبات تعزيرية، فإذا تخلف الإنسان عن ركعة واحدة من الصلاة جلده عشرة أسواط، وإذا تخلف عن ركعتين جلده عشرين سوطاً، وإذا تخلف عن ثلاث ركعات جلده ثلاثين سوطاً، وإذا تخلف عن أربع ركعات جلده أربعين سوطاً، وعود الناس على الانشغال بالصلاة وترك ما كانوا فيه، وقد وجد عاداتهم كعادات أهل البادية، وحين طال بهم الأمد تركوا دعوة ابن ياسين وأهملوا تعاليم الإسلام، فكان الناس قبل مجيئه لا يصلي منهم في المساجد إلا نفر يسير، ولا تبنى المساجد ولا تقام، والذين يصلون الصلاة ينقرونها نقراً؛ لأنهم يخافون ضياع أموالهم أو تلف بهائمهم أو زروعهم، ولا يتوضئون إلا نادراً؛ لأنهم لا يجدون الماء إلا بالحفر في أعماق الأرض، ولا يقيمون كثيراً من حدود الله؛ لأنهم عشائر وقبائل يتحاكمون إلى الأعراف والعادات.
فلما جاء ابن ياسين كافح كل هذه الأمور، وعلمهم دين الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزال أدران الجاهلية من نفوسهم، وبذلك استطاعوا أن يتخلصوا من هذه الجرائم وأن يتركوها بالكلية.
كذلك جاء قوم بعد ابن ياسين وحاولوا تجديد دعوته، وهم خمسة رجال فقط، فاجتمع هؤلاء وتعاهدوا على أن يحيوا دعوة ابن ياسين وعلى أن يحيوا الرباط من جديد، وعندما أقاموا في مجتمعهم مكثوا فترة طويلة لم يروا أية جريمة، وعينوا قاضياً فمكث زماناً لم يتحاكم إليه اثنان، ولم تقع أية خصومة؛ لأن الناس قد رجعوا إلى قيم الإسلام وإلى أخلاقياته، وأول خصومة حصلت بين أخوين، فأرسلا إلى القاضي وضربت لهما قبة بعيداً عن أماكن الناس، وجلسا فيها ينتظران القاضي، فقيل: هذا القاضي قد أقبل، فقالوا: ليرجع القاضي، فهذا أمر ينبغي أن يستر وهو واجب الاستتار، وسنصلح شأننا فيما بيننا، ورجع القاضي من دون أن يسمع الدعوى.
إن هذه الجرائم من أبلغ ما يكافحها تصديق القيم، والعودة إلى منابع الدين كما هي، والرجوع إلى أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وإلى أخلاق أصحابه.
فحين قام أبو بكر بقتال أهل الردة وقاتلهم على الإسلام أصبح ذلك رادعاً، فلم يعرف في أيام الخلفاء الراشدين أن أحداً أقيم عليه حد الردة، ولا في صدر دولة بني أمية، إلى أن وصل الأمر إلى آخر دولة بني أمية، فأول من عرف ممن قتل على الردة هو الجعد بن درهم، الذي زعم أن الله لم يستو على عرشه، ولم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فخطب خالد بن عبد الله بن يزيد القسري، بالناس خطبة العيد، فقال في آخر خطبته: أيها الناس! ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مضحٍّ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يستو على عرشه، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.
فنزل من المنبر، فذبحه كما تذبح الضحية! فقتال الردة جعل الناس يرتدعون عن الردة زماناً طويلاً، ولم يفكر أحد في الارتداد عن الإسلام للعقوبة الرادعة التي قام بها أبو بكر والصحابة معه.
ومثل ذلك العقوبات التي أشيعت أيضاً في صدر الإسلام، فستجدون أن كل عقوبة أقيمت في بلد واشتهرت فيه فإن أهل ذلك البلد سيرتدعون عما رتب الشارع عليه تلك العقوبة؛ ولهذا جاء في الحديث:(لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً)، (سبتاً) أي: أسبوعاً كاملاً.