وكذلك من هذه النماذج الصالحة صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي مات عنها زوجها وترك لها الزبير طفلاً صغيراً ولم يترك لها أي مال، فكان أخوها أبو طالب ينفق عليها وعلى ولدها، وكانت تشتد مع ولدها في تربيته، وتضربه على خلقه، لتعلمه الشجاعة والحنكة والحكمة، ولهذا نقدها أعمامه وزعموا أنها تبغضه، فقالت فيهم: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب ولذلك فإنها قد أتاها رجال في الجاهلية يسألون عن الزبير حين أسلم يريدون الإيقاع به، فجاءها رجل من قريش، فقال: أحق أن الزبير قد صبأ؟ فقالت: كلا والله! ولكنه أسلم وصدق، فقال: سترين ما أصنع به، فقالت: هو في المكان الفلاني فاذهب إليه، فذهب إلى الزبير فوجده منشغلاً بأمر فهجم عليه، فأخذه الزبير وأسره وكتفه بسية قوسه، وجاء يحمله على عاتقه فوضعه بين يدي صفية، فوقفت عليه وضربته بعصا وقالت: كيف وجدت زبرا؟ أعسلاً وتمراً؟ أم أسد هزبرا؟ ثم إنها قد شجعت المسلمات على نصرة الدين وقامت بكثير من التضحية في سبيل ذلك، سواء كان هذا في العصر المكي وعصر الاستضعاف، حيث كانت صفية وأخواتها بنات عبد المطلب اللاتي لهن مكانة اجتماعية كبيرة بمكة؛ يدافعن عن المستضعفين، ويقدمن النفقات إلى المأسورين من المسلمين، حتى إن أبا جهل نقدهن بذلك، وقال: ما زلتم يا بني هاشم يتنبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم؟ وذلك حين رأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها في قصة معركة بدر، رأت أن شهاباً نزل على جبل أبي قبيس فتفرق فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا دخلته جمرة منه، فأول ذلك بمعركة للإسلام على قريش ينهزم فيها المشركون، وينصر فيها الدين، فكانت معركة بدر.
كذلك فإن صفية بعد أن هاجرت إلى المدينة، كان لها دور بارز في تعليم النساء، ومؤازرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأييده على القيام بالحق، حتى إنها كانت تجاهد بنفسها، وكانت ذات شجاعة وبطولة، فحين اشتدت الأزمة على المسلمين بالمدينة، وبلغوا مبلغاً لم يبلغوه في أي أزمة في يوم الأحزاب، فهي أعظم أزمة في التاريخ المدني، كما أن أعظم أزمة في التاريخ المكي هي قضية الهجرة.
فأعظم أزمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة هي قضية الأحزاب التي وصفها الله تعالى في كتابه بقوله:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:١٠ - ١١].
هذه الأزمة العظيمة انتهزتها صفية بنت عبد المطلب لتبين نموذجاً صالحاً من النماذج النسوية التي ينبغي أن يقتدي بها النساء حين لا يقوم الرجال، أو حين ينشغل الرجال عن أداء الواجبات، أو حين لا تتأتى فرصة للرجال فيقومون بما وجب عليهم، فإن النساء حينئذ سيقمن به على الوجه الصحيح كما فعلت صفية بنت عبد المطلب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل النساء في حصن حسان وكان حصناً بالمدينة، فرأى اليهود ذلك، فأرادوا الاعتداء على النساء حين شغل المسلمون بالمعركة، فجاء أحدهم يستطلع القصر، يريد أن يكتشف هل للقصر حامية تحيمه من الرجال، أو ليس كذلك حتى يصولوا عليه ويأخذوا من فيه، فلما رأت صفية هذا الرجل، عرفت أنه ما جاء إلا لشرٍ فنزلت إليه بعمودٍ فضربته حتى قسمت رأسه، ثم أمرت حسان بن ثابت أن ينزل إليه حتى يسلبه ويأخذ سيفه وسلاحه فقال: هلا سلبتيه؟! فقالت: إنه قد استقبلني بعورته فعففت عنه.
فقامت بالحق، وأدت هذه المهمة الجهادية العظيمة، فلما رأى ذلك اليهود قالوا: قد علمنا أن محمداً لم يكن ليترك نساءه دون حامية، وظنوا أن صفية رجل وأنها من الرجال الذين يحمون النساء في ذلك الأطم، أي: الحصن.